مفتاح العالم
د. نضال الصالح
في الأدب المصريّ القديم أن حكيماً نقشَ وصية لابنه على ورق البردي جاء فيها: “يا بنيّ، ضعْ قلبكَ وراء كتبك، وأحببها كما تحبّ أمّك، فليس هناك شيء تعلو منزلته على الكتب”، وكان قيل لأرسطو: كيف تحكم على إنسان؟ فأجاب: أسأله كم كتاباً قرأ؟ وماذا قرأ؟ وللجاحظ قوله: “إنّي لا أعلمُ شجرة أطول عمراً ولا أطيب ثمراً ولا أقرب مجتنى من كتاب”، ولعبّاس محمود العقّاد: “أحبُّ الكتاب، لا لأنني زاهدٌ في الحياة، ولكن لأنّ حياة واحدة لا تكفيني”.
ما سبق، وسواه كثير من أقوال خالدة فيما يعني ضرورة القراءة، يتجاوز كونه تعبيراً عن قيمة الكتاب في الحياة إلى كونه تعبيراً عن الحياة نفسها، حياة الأفراد والمجتمعات، وما يشير إلى علاقة كلّ منهما بالرقيّ والتقدّم والحضارة، وبالقوّة أيضاً. أجل القوّة، لأنّ المعرفة قوّة، أفليس صواباً، بل صواب الصواب أنّ “الذين يقرؤون هم الأحرار فقط”؟ وأليس دقيقاً؟ بل مطلق الدقّة، ما كان جامع الأعمال الأدبية الأشد أثراً في التاريخ وناشرها، الأرجنتيني “ألبرتو مانغويل” قال: “إنّ القراءة مفتاح العالم”. وما سبق أيضاً، وسواه كثير، يعني الإنسان عامّة، فكيف إن كان هذا الإنسان كاتباً؟ الكاتب قارئ بالضرورة قبل أن يكون كاتباً، بل لا يمكن له أن يكون كاتباً إن لم يكن قارئاً، فالقراءة، بالنسبة إلى الكاتب، كأيّ من عناصر الطبيعة، الماء والهواء والغذاء والضوء و..، بالنسبة إلى الحياة التي إن غاب عنصر من تلك العناصر عنها صارت إلى نقيضها، إلى الموت.
كيف للكاتب أن يكتب إن لم يقرأ؟ وكيف سيكون فعل الكتابة، قيمة وأهمية وأثراً، إن لم يكن مسبوقاً بفعل القراءة؟ وأيّ كتابة يمكن لها أن تبلغ نبتة الخلود، حسب الملحمة الرافدية القديمة، إن لم تكن ثمرة لقراءات لا قراءة؟ أفلم تكن أعمال نجيب محفوظ، بمختلف تجلياتها الأجناسية، وكما تجهر بذلك، قراءات قبل أن تكون أعمالاً مكتوبة؟ وألم يقل محفوظ نفسه: “أكبر هزيمة في حياتي هي حرماني من القراءة بعد ضعف نظري”؟
غير قليل ممّن يتوهمون أنفسهم كتّاباً يكتبون من دون أن يقرؤوا، ولا يضير أحدهم أن يسمّي نفسه شاعراً وليس في زاده من قراءة الشعر سوى القليل، أو أن يسمّي نفسه قاصاً ولا يزيد عدد المجموعات القصصية التي قرأ على عدد أصابع اليدين، أو أن يسمّي نفسه روائياً وهو لا يعرف من مغامرات الفنّ الروائي سوى جغرافية محدودة منها، أو أن تسوّل نفسه له أنّه ناقد أدبيّ، أو باحث، أو.. ومجمل ما في زاده المعرفيّ في هذا المجال أو ذاك بضعة من الكتب.
القراءة أولاً، ثمّ الكتابة، وهذه الثانية ستكون محكومة بالنحول والذبول والوهن والحياة على شفا موت إن لم تكن طفلة الأولى، أفليست الآية الأولى في إنجيل يوحنا: “في البدء كانَ الكلمةُ، والكلمةُ كانت عند الله، وكان الكلمةُ اللهَ”؟ أو ليست الكلمة الأولى التي حملها جبريل من السماء إلى النبيّ الكريم: “اقرأ”؟ ثمّ أتبعها بالقول: “الذي علّمَ بالقلم، علّمَ الإنسان ما لم يعلم”.