دراساتصحيفة البعث

الاقتصاد الأمريكي إلى الهاوية

 

د. رحيم هادي الشمخي

أكاديمي وكاتب عراقي

انتبهت الأسواق المالية أخيراً إلى حقيقة مفادها أن دونالد ترامب هو رئيس الولايات المتحدة، ولكن في ضوء ما تحمّله العالم طوال سنتين من التغريدات والتصريحات العامة الطائشة المتهورة من قبل الرجل الأعظم قوة في العالم، فإن السؤال الواضح الآن هو لماذا استغرقت الأسواق المالية كل هذا الوقت؟.

بادئ ذي بدء، كان المستثمرون يزعمون أن ترامب كثير الكلام (جعجعة بلا طحن)، وعلى هذا فإنهم كانوا على استعداد لمنحه فائدة الشك مادام يلاحق سياسة التخفيضات الضريبية، وإلغاء القيود التنظيمية، وغير ذلك من السياسيات المفيدة لقطاع الشركات وحاملي الأسهم، وكان كثيرون يثقون في أن “البالغين في الغرفة” سيقيّدون حركة ترامب بما يضمن أن سياسيات الإدارة لن تتجاوز حدود المعقول.

كانت هذه الافتراضات مسوّغة بدرجة أو أخرى خلال سنة ترامب الأولى في المنصب، عندما أفضى النمو الاقتصادي والزيادة المتوقعة في أرباح الشركات –نظراً للتخفيضات الضريبية الوشيكة وإزالة القيود التنظيمية- إلى أداء قويّ لسوق الأوراق المالية، ففي عام 2017، ارتفعت مؤشرات الأسهم الأمريكية بما يتجاوز 20%، لكن الأمور تغيّرت بشكل جذري في عام 2018 وخاصة في الأشهر القليلة الأخيرة، فعلى الرغم من نمو أرباح الشركات بأكثر من 20% (بفضل التخفيضات الضريبية)، تحركت أسواق الأسهم الأمريكية بشكل عرضي صعوداً وهبوطاً خلال القسم الأعظم من العام، والآن سلكت منعطفاً هابطاً حاداً، وفي هذه اللحظة، تمرّ مؤشرات عريضة عبر منطقة التصحيح (بمعنى أنها قد تنخفض بنسبة 10% عن ذروتها الأخيرة)، أما مؤشرات أسهم الشركات التكنولوجية، مثل مؤشر نازداك، فتمرّ بمنطقة السوق الهابطة لفترة مطولة (حيث قد يتجاوز الهبوط 20%).

ورغم التقلبات الأعلى في الأسواق المالية تعكس المخاوف بشأن الصين، وإيطاليا، واقتصادات منطقة اليورو الأخرى، والاقتصادات الناشئة الرئيسية، فإن أغلب الاضطرابات الأخيرة ترجع إلى ترامب، بدأ العام بتشريع التخفيضات الضريبية الطائش الذي دفع أسعار الفائدة الطويلة الأجل إلى الارتفاع وخلق حالة من النشاط المفرط المؤقت في اقتصاد يقترب بالفعل من التشغيل الكامل للعمالة، وفي شباط الفائت، أدّت المخاوف المتنامية حول احتمال ارتفاع التضخم بما يتجاوز المستوى المستهدف الذي حدّده بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بنحو 2% إلى أول إحجام عن المجازفة في العام، ثم أتت حروب ترامب التجارية مع الصين وغيرها من شركاء الولايات المتحدة التجاريين الرئيسيين، وقد تعاظمت المخاوف إزاء سياسيات الحماية التي انتهجتها الإدارة ثم تضاءلت على نحو تبادلي متكرر طوال العام، لكن هذه المخاوف بلغت الآن ذروة جديدة، ويبدو أن أحداث التدابير التي اتخذتها الولايات المتحدة ضد الصين تبشّر بحرب باردة تجارية واقتصادية وجيوسياسية أعرض.

يتمثل سبب إضافي للقلق والانزعاج في احتمال مفاده أن سياسات ترامب الأخرى قد تتسبّب في إحداث تأثيرات الركود التضخمي (انخفاض النمو وارتفاع التضخم في الوقت ذاته). في كل الأحوال، يخطّط ترامب للحدّ من الاستثمار المباشر الأجنبي المتجه إلى الداخل، وقد سارع بالفعل إلى فرض قيود واسعة على الهجرة، والتي ستقلّل من نمو المعروض من العمالة في وقت تغلب عليه معضلة متنامية بالفعل تتمثّل في شيخوخة قوة العمل وعدم تطابق المهارات، علاوة على ذلك، لم تقترح الإدارة خطة خاصة بالبنية الأساسية لتحفيز إنتاجية القطاع الخاص أو التعجيل بالانتقال إلى الاقتصاد الأخضر، وعلى موقع تويتر وأماكن أخرى، استمر ترامب في توبيخ وتقريع الشركات فيما يتصل بممارسات استئجار العمال، والإنتاج، والاستثمار، والتسعير، مع استهداف شركات التكنولوجيا التي كانت تواجه بالفعل ردّة فعل عكسية أوسع ومنافسة متزايدة من قبل الشركات الصينية المناظرة.

كما اهتزت الأسواق الناشئة بفعل سياسات الولايات المتحدة، وأدى إحكام الحوافز المالية والسياسية النقدية إلى دفع أسعار الفائدة القصيرة والطويلة الأجل إلى الارتفاع، فضلاً عن تعزيز قوة الدولار الأمريكي، ونتيجة لهذا، شهدت الاقتصادات الناشئة هروب رأس المال وارتفاع الديون المقومة بالدولار، كما عانى أولئك الذين يعتمدون بشكل كبير على الصادرات من تأثيرات انخفاض أسعار السلع الأساسية، كما شعر كل من يتاجر مع الصين ولو حتى بشكل غير مباشر بالتأثيرات المترتبة على الحرب التجارية، وحتى سياسات ترامب النفطية أدى على خلق تقلبات، فبعد أن تسبّب استئناف العقوبات الأمريكية ضد إيران في دفع الأسعار النفط إلى الارتفاع، أدت جهود الإدارة في فرض الإعفاءات والتنمر على المملكة العربية السعودية لحملها على زيادة إنتاجها من النفط إلى هبوط حاد في أسعار النفط، ورغم أن المستهلكين الأمريكيين استفادوا من انخفاض أسعار النفط، فإن أسعار أسهم شركات الطاقة الأمريكية لم تستفد، فضلاً عن ذلك، يعدّ تقلّب أسعار النفط بشكل مفرط أمراً سيئاً للمنتجين والمستهلكين على حدّ سواء، لأنه يعوق القدرة على اتخاذ قرارات معقولة فيما يتصل بالاستثمار أو الاستهلاك.

ما يزيد الطين بلة أنه بات من الواضح الآن أن الفوائد التي ترتبت على التخفيضات الضريبية في العام المنصرم ذهبت بالكامل تقريباً لقطاع الشركات، وليس الأسر في هيئة أجور حقيقية (معدلة تبعاً للتضخم) أعلى، وهذا يعني أن استهلاك الأسر ربما يتباطأ قريباً، مما يزيد من إضعاف الاقتصاد.

الأمر الأكثر دلالة من أي شيء آخر رغم ذلك هو أن الانخفاض الحاد الذي شهدته أسواق الأسهم الأمريكية والعالمية في الربع الأخير من العام كان استجابة لتصريحات وأفعال ترامب ذاته، وحتى الأسوأ من تصاعد خطر اندلاع حرب تجارية شاملة مع الصين (على الرغم من «الهدنة» الأخيرة التي جرى التوصل إليها مع الرئيس الصيني شي جين بينغ) هو الهجمات العامة التي شنّها ترامب على بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والتي بدأت في ربيع 2018، عندما كان الاقتصاد الأمريكي يشهد نمواً تجاوز 4% نظراً لهذه الهجمات السابقة، تملك الفزع من الأسواق هذا الشهر عندما اتخذ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قراراً صحيحاً برفع أسعار الفائدة، في حين أشار أيضاً إلى وتيرة أكثر تدرجاً لزيادات أسعار الفائدة في عام 2019، وفي الأرجح، كان موقف الاحتياطي الفيدالي المتشدّد نسبياً بمثابة ردة فعل لتهديدات ترامب له، ففي مواجهة التغريدات الرئاسية المعادية، كان لزاماً على رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول أن يشير إلى أن البنك المركزي لايزال يتمتّع باستقلاله السياسي، ولكن في أعقاب ذلك أتى قرار ترامب بإغلاق أقسام كبيرة من الحكومة الفيدرالية بسبب رفض الكونغرس تمويل الجدار الحدودي غير المجدي مع المكسيك، وتسبّب هذا في إثارة حالة أشبه بالذعر في الأسواق، وسرعان ما أعقب إغلاق الحكومة صدور تقارير مفادها أن ترامب يريد إقالة باول –وهو التحرك الذي من شأنه أن يحول التصحيح على سقوط حاد. وقبل عطلة عيد الميلاد مباشرة، اضطر وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوشين إلى إصدار بيان عام لتهدئة الأسواق، فأعلن أن ترامب، لا يخطّط لإقالة باول رغم كل ما قيل، وأن البنوك الأمريكية تتمتع بظروف مالية سليمة، مما سلّط الضوء فعلياً على السؤال حول ما إذا كانت سليمة حقاً، كما تعمل التغييرات الأخيرة داخل الإدارة، والتي لا تؤثر بالضرورة على عملية صنع السياسات الاقتصادية، على إثارة حالة من الجزع في السوق، والواقع أن رحيل رئيس هيئة العاملين في البيت الأبيض جون كيلي ووزير الدفاع السابق جيمس ماتيس الوشيك من شأنه أن يجعل الغرفة خالية من البالغين، وسوف تسعى الزمرة المتبقية من القوميين الاقتصاديين وصقور السياسة الخارجية إلى إرضاء كل نزوات ترامب.

في ظل الظروف الحالية لا يمكن استبعاد خطر اندلاع حريق جيوسياسي كامل النطاق مع الصين، ومن شأن الحرب الباردة الجديدة أن تفضي فعلياً إلى انحسار العولمة، وتعطيل سلاسل العرض والتوريد في كل مكان، ولكن بشكل خاص في قطاع التكنولوجيا، كما تشير أحداث أخيرة مع شركتي ZTE وهواوي، في الوقت ذاته، يبدو ترامب عازماً كل العزم على تقويض تماسك الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي، في وقت تعاني أوروبا من الهشاشة اقتصادياً وسياسياً، ويمثل التحقيق الذي يجريه المستشار الخاص روبرت مولر في علاقات مزعومة بين حملة ترامب الانتخابية في عام 2016 وروسيا سيفاً مسلطاً على رئاسته.

لقد تحوّل ترامب الآن إلى «دكتور سترينجلوف» الأسواق المالية، فمثله كمثل المجنون المصاب بجنون العظمة في فيلم ستانلي كوبريك الكلاسيكي، يغازل ترامب الدمار الاقتصادي المتبادل المؤكد، الآن وقد انتبهت الأسواق إلى الخطر، فقد تزايد خطر اندلاع الأزمة المالية والركود العالمي.