بين الإشكاليات المتجذرة والسياسات اللازمة للتطوير…قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة لا يزال يراوح بين التشخيص والتجريب..!
لاشك أن المشروعات الصغيرة والمتوسطة هي الحاضنة الأساسية للطاقات الوطنية البشرية والمادية بما يحقق أعلى درجات المنفعة الاقتصادية والاجتماعية، لكنها ما زالت تفتقر إلى استراتيجية شاملة لتطويرها ومتابعة تنفيذها، إذ تعاني سورية من ضعف كبير في حصة المشروعات الصغيرة والمتوسطة من إجمالي التسهيلات (4% فقط)، فبحسب تقرير صندوق النقد العربي تبلغ حصة المشروعات الصغيرة والمتوسطة الإئتمانية من إجمالي التسهيلات للقطاع المصرفي في المتوسط 9% في الدول العربية و18% في البلدان متوسطة الدخل، ومعنى ذلك أن سورية تعاني من فجوة تتجاوز 100% لتصل إلى المتوسط العربي، وأكثر من 450% لتصل إلى متوسط البلدان متوسطة الدخل، مع أنه وفي الحالة الطبيعية يساهم القطاع الخاص بحوالي 65% من الناتج المحلي الإجمالي، وتشكل المشروعات الصغيرة والمتوسطة حوالي 99% من منشآته)، وبالرغم من الجهود المبذولة في إطار إنعاش هذا القطاع والارتقاء بواقعه، لا يزال دون المستوى المطلوب ما لم تتمخض عن شراكة مع كافة الجهات المعنية (العامة والخاصة والمؤسســات غيـر الحكومية) يؤطرها التعاون والتنسيق المستمر لتقييم وتطوير مساهمة المشروعات الصغيرة والمتوسطة في الاقتصاد الوطني.
توزعها الجغرافي
بحسب إحصائية أعدتها هيئة تنمية المشروعات تبين نطاق توزع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، تظهر 40% من المشروعات العاملة حالياً تقع في محافظة اللاذقية وريفها، ثم تأتي بعدها محافظة طرطوس بنسبة 23%، فمحافظة حماة في المرتبة الثالثة بنسبة 17% من المشاريع، وتستحوذ محافظة الحسكة على 7% من المشاريع العاملة على الأرض، مما قد يوحي بوضع مستقر ومشجع على العمل في المدينة خلال الفترة المقبلة، لكن اللافت في الإحصائية النسبة الضعيفة التي نالتها محافظة حلب؛ إذ سجلت نسبة 4% فقط، ويعود السبب بحسب الهيئة إلى حداثة الفترة التي بدأت فيها آلية التسجيل، كما أن الأوضاع في المدينة كانت غير مواتية للعمل.
وتتقارب النسبة المنخفضة في محافظات (دمشق، درعا، حمص) بـ2% لكل منها، وأقل من ذلك في محافظات (ريف دمشق، السويداء، دير الزور) تقارب 1% فقط، وعزت الهيئة النسب المنخفضة إلى ظروف الأزمة، أما (القنيطرة، الرقة، إدلب) فلم تسجل فيها مشاريع فاعلة على الأرض، وذلك لأسباب عديدة، منها أن أهم التجمعات السكانية لمدينة القنيطرة تقع في ريف دمشق، أما بالنسبة إلى الرقة وإدلب فلا يوجد فيها فروع للهيئة، وبالتالي لم تسجل بيانات عن العينة فيها.
أما التوزع القطاعي للمشروعات فإنها بحسب العينة الإحصائية ذاتها بينت أن النسبة الأكبر في المشاريع هي للمشاريع الزراعية بـ41% بسبب سهولة إطلاق هذه المشاريع قياساً ببقية الأنواع ضمن الظروف الحالية، وتأتي المشاريع الصناعية في المرتبة الثانية بـ30% من الإجمالي المشروعات، وهذا المؤشر يتنامى بشكل سريع نسبياً (ففي شهر حزيران من عام 2018 كانت نسبة المشاريع الصناعية 18%)، أما المشاريع الخدمية فتقدر بـ 17% والتجارية بـ 12%.
تنمية متوازنة
يتصدر أولى خطوات إنعاش هذا القطاع بحسب رأي مدير هيئة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة إيهاب اسمندر بناء علاقات شراكة استراتيجية قائمة على الثقة المتبادلة بين القطاع العام والخاص، إلى جانب خلق الوعي بأهمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة ودورها الأساسي في تطوير الاقتصاد، والاستفادة من تجارب الدول الأخرى والمنظمات الدولية في مجال دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وبين اسمندر أن أهمية هذه المشروعات تأتي من قابليتها للانتشار في مختلف المناطق داخل المدن والأرياف؛ مما يضمن عدالة أكبر في التنمية المتوازنة على امتداد مساحة البلاد، كما أنها تخلق كماً كبيراً من فرص العمل؛ مما يشكل حلاً لمشكلة البطالة في المناطق التي توجد فيها، إذ تبين الدراسة أنه مع خلق كل 1000 مشروع صغير سيتراجع معدل البطالة بمقدار 1%، ومع كل زيادة في التكوين الرأسمالي للمشروعات الصغيرة بمقدار واحد مليون دولار تتراجع البطالة بمعدل 1%، كما تتميز بعدم حاجتها لرأس المال الكبير النادر نسبياً في سورية قياساً بعنصر العمل ذي الوفرة النسبية في مختلف المناطق، أي بمعنى آخر كثافة العمل = ارتفاع قيمة عنصر العمل بالنسبة لرأس المال، وبالتالي سيعمل 60% من قوة العمل السورية في مشروعات صغيرة ومتوسطة لتحقيق الاستفادة الحقيقية من هذه المشروعات ولوضع حد لمشكلة البطالة المتزايدة.
بيئة تمكينية
إن تطوير القطاع يحتاج إلى توفير بيئة تشريعية وإدارية متكاملة ومحفزة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة لانتقالها إلى القطاع المنظم من خلال التعاون والتنسيق مع كافة الجهات المعنية، بالإضافة إلى إنجاز مشروع تعداد المنشآت الصغيرة والمتوسطة، بهدف إيجاد معلومات وبيانات إحصائية شاملة ودقيقة لقطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، تسهم باتخاذ القرار لتقديم الدعم المناسب لهذا القطاع، وطالب اسمندر بوجود سياسات لدعم المشروعات وتعزيز تنافسية الإنتاج المحلي من خلال إحداث شبكة وطنية لحاضنات أعمال المشروعات الصغيرة والمتوسطة متعددة النشاطات الاقتصادية، وإقامة تجمعات حرفية وصناعية ومراكز تدريبية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، والعمل على زيادة إنتاجية المشروعات الصغيرة والمتوسطة القائمة، وتحسين أدائها وزيادة صادراتها، وتنظيم وضبط سوق تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتسهيل نفاذها إلى الخدمات المالية، إضافة إلى نشر ثقافة ريادة الأعمال وتشجيع الإبداع والابتكار.
إشكاليات متعددة
بالرغم من اعتبار التمويل من أهم المعوقات التي تواجه هذا القطاع، إذ تعتمد نحو 88% من المشروعات على المدخرات الشخصية والقروض العائلية، إلا أن اسمندر لم يخفِ حجم الإشكاليات الإدارية التي تشكل عثرة حقيقية في وجه الكثير منها، كالملكية الفردية للمنشأة والتي ترتبط ﺑﺣﻳﺎﺓ ﺃﺻﺣﺎﺑﻬﺎ ﻭﺍﺳﺗﻘﺭﺍﺭﻫﻡ ﺍﻟﻌﺎئلي وﻋﺩﻡ ﺍﻟﻘﺩﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺗﻧﺑﺅ ﻭﺍﻟﺗﺧﻁﻳﻁ وﻋﺩﻡ ﺩﻗﺔ ﺍﻟﺑﻳﺎﻧﺎﺕ اللازمة لها، وعدم ﻭﺟﻭﺩ ﺩﻓﺎﺗﺭ ﺃﻭ ﺳﺟﻼﺕ قانونية، إضافة إلى إشكاليات التسويق إذ تعاني نحو 72% من المشروعات من صعوبات تسويقية متمثلة بقلة ﺍلأﻣﺎﻛﻥ ﺍﻟﻣﺧﺻﺻﺔ ﻟﻌﺭﺽ ﺍﻟﻣﻧﺗﺟﺎﺕ ﻭﻋﺩﺩ ﻗﻧﻭﺍﺕ ﺍﻟﺗﻭﺯﻳﻊ والافتقار إﻟﻰ ﺍﻟﻣﻭﺍﺻﻔﺎﺕ ﻭﺍﻟﺗﺻﻣﻳﻣﺎﺕ ﻭﻋﺩﻡ ﺍﻟﻘﺩﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺗﻧﻔﻳﺫﻫﺎ وﻏﻳﺎﺏ ﺍﻟﺭﻗﺎﺑﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺟﻭﺩﺓ، ولفت اسمندر إلى أن أهم الإشكاليات الإنتاجية التي تواجه هذا القطاع هي عدم ﺍﻟﺣﺻﻭﻝ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻣﻭﺍﺩ ﺍﻟﺧﺎﻡ ﺍﻷﻭﻟﻳﺔ ﺍﻟﻣﻧﺎﺳﺑﺔ؛ ﻣﻣﺎ ﻳﺅﺩﻯ إﻟﻰ ﺍﻧﺧﻔﺎﺽ ﻣﺳﺗﻭﻯ ﺍﻟﺟﻭﺩﺓ ﻭﺍﺣﺗﻛﺎﺭ ﺍﻟﻭﺳﻁﺎء ﻭﺗﺟﺎﺭ ﺍﻟﺟﻣﻠﺔ ﻭﻓﺭﺽ ﺳﻠﻊ ﻣﺣﻣﻠﺔ ﻋﻧﺩ ﺍﻟﺷﺭﺍء ﺑﺎلأﺟﻝ، وﻋﺩﻡ ﺍﻟﻘﺩﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﺳﺗﻘﻁﺎﺏ ﺍﻟﻌﻣﺎﻟﺔ ﺍﻟﻣﺩﺭﺑﺔ ﻭﺍﻟﻣﺅﻫﻠﺔ والاحتفاظ بها (53% من المشروعات تواجه صعوبة بذلك)، وانخفاض المستوى الفني المؤهل للوصول إلى مستوى تنافسي حيث تواجه 45% من المشروعات مشاكل فنية.
بين الخطأ والصواب
وخلص مدير الهيئة إلى ضرورة إنشاء المنتدى السوري لتمويل المشرعات المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر، الكفيل بتبادل المعرفة وتعزيز الممارسات الجيدة في مجال التمويل، وزيادة مساهمة المصارف التقليدية والإسلامية في تمويل المشاريع المتوسطة والصغيرة من خلال مؤسسات التمويل المتخصصة، وإنشاء بورصة متخصصة تعمل كمنصة أوراق مالية لقيد وتداول الشركات المتوسطة والصغيرة بقواعد إدراج وتداول تتلاءم مع طبيعة المشروعات المتوسطة والصغيرة.
إلا أن الدكتورة ريم رمضان المختصة بتنمية هذا النوع من المشروعات أكدت أن الإشكالية تكمن في عدم الاستعانة بالخبراء لتفعيل آلية عمل الهيئة، مؤكدة أن الحل لا يكون بإنشاء منتدى أو مؤسسات أخرى تتطلب تكاليف مالية، بل بتفعيل الهيئة الموجودة والاستفادة من تجربة هيئة مكافحة البطالة التي اعتبرتها تجربة ناجحة وفاشلة معاً، وبالتالي يمكن الاستفادة من النقاط الإيجابية في هذه التجربة والعمل على دراسة النقاط التي أدت إلى الفشل لمعالجتها والانطلاق منها، كما بينت رمضان أن طلب زيادة مساهمة المصارف التقليدية والإسلامية في تمويل المشاريع المتوسطة والصغيرة مقترح غير صائب كون التمويل الأصغر خارج إطار عملها، وهناك مصارف متخصصة بالعمل والممارسات لتمويل هذه المشروعات والمصارف التقليدية ليس لها علاقة بتمويلها.
ولفتت رمضان إلى أن المصرف المركزي ليس لديه تشريعات تتعلق بالتمويل الأصغر، مؤكدةً على التفريق بين المشروعات المتوسطة والصغيرة والمشروعات متناهية الصغر، وأن تشريعات المركزي لا تتناسب مع حاجة القطاع في الوضع الحالي وتشجعيه على النمو، بل أنها لا تشجع أية جهة للاستثمار في هذا القطاع، وأضافت رمضان لو كانت التشريعات التي أصدرها المركزي ناجعة فيما يتعلق بقطاع التمويل الأصغر ( الماكرو ) بعد هذه السنوات، يفترض أن يشهد هذا القطاع انتعاشاً، ولكن يبدو أن التمسك بالتشريعات وعدم تطويرها بما يتلاءم مع البيئة السورية والأسس العلمية في هذا القطاع أدى إلى إحجام العديد من المؤسسات العالمية من الاستثمار في هذا القطاع، كما أدى إلى تكبيل عمل المؤسسات القائمة فعلياً في تطوير عملها من خلال التدخل المستمر في آلية عملها، أما فيما يتعلق بإنشاء بورصة فأكدت رمضان أن المؤسسات التي تعمل في مجال التمويل الأصغر تدخل أتوماتيكياً بعد مرحلة نجاحها في سوق الأوراق المالية كمؤشر على مدى نجاعتها، ولا ضرورة لوجود بورصات أخرى.
فاتن شنان