ما وراء ترميم كاتدرائية نوتردام
ترجمة: هيفاء علي
عن صحيفة “لو بوان” 4/5/2019
استغل الاليزيه حادثة حريق كاتدرائية نوتردام لتنفيذ مشروع كان يرقد في الأدراج، وهو تحويل جزيرة المدينة إلى مكان سياحي خلال الألعاب الأولمبية التي ستجري عام 2024، والمعرض العالمي عام 2025، لذلك أطلق نظريته “كارثة تراثية” لتجنّب القيود والإجراءات القانونية لمشروعه الواعد.
عندما اندلع الحريق في كاتدرائية نوتردام هرعت جميع وسائل الإعلام الفرنسية والأجنبية إلى موقع الحدث ماعدا قناة “فرانس2” الرسمية التي فضّلت تكريس التغطية لخطاب ماكرون حول “الحوار الوطني الكبير”، لكنها اكتفت بالإعراب عن أسفها العميق لهذا الحادث المأساوي. لقد أظهرت برودة الصحفيين، وحماقة تعليقات الساسة الفرنسيين الهوة العميقة التي تفصل عقليتهم عن عقلية الشعب الفرنسي، فبالنسبة للطبقة الحاكمة، جمال نوتردام ليس إلا صرحاً لخرافة مسيحية، بينما بنظر الشعب الفرنسي هو المكان الذي اجتمعوا فيه كشعب للتأمل وشكر الله.
مباشرةً، عقد ماكرون العزم ليس لترميم الكاتدرائية، وإنما لتحقيق مشروع كان ينتظر منذ عامين ونصف في الأدراج. ففي كانون الأول عام 2015، تمّ تشكيل لجنة برئاسة الرئيس فرانسوا هولاند في تلك الفترة وعمدة باريس، آن هيدالغو، وكان حينها ايمانويل ماكرون وزيراً للاقتصاد والصناعة والاتصالات. كما ضمّت اللجنة شخصيات عدة أخرى كمدير اليونسكو الحالي، اودري ازولاي، ومدير مكتب الداخلية، للقيام بمهمة بقيادة رئيس مركز الآثار الوطنية، فيليب بيلافال، والمهندسة المعمارية دومينيك بيرولت.
كانت المهمّة هي تحويل جزيرة المدينة “ايل دو سيتي” التي شُيّدت من قبل البارون هوسمان في القرن التاسع عشر إلى جزيرة أثرية، أي صرح تاريخي. وجاءت الفرصة على طبق من ذهب لماكرون كي يحقّق هذا الهدف. ضمت المهمّة 35 ورشة عمل من ضمنها ورشة لفتح طرق من أجل الحركة تحت الأرض، ووضع المساحات الداخلية تحت الزجاج لتكون الجزيرة نزهة إجبارية لـ 14 مليون سائح سنوياً من الفرنسيين فقط، من دون حساب السياح الأجانب.
التقرير الصادر عن اللجنة أشار إلى الربح التجاري الكبير الذي سيحقّقه هذا المشروع، لكنه لم يشر ولو بكلمة واحدة عن القيمة التراثية والروحية التي تمتلكها الكاتدرائية. وما غاب عن التقرير أيضاً أن هذا المشروع الطموح بنظر ماكرون وعصابته قد لا يتحقّق بهذه السهولة، وبهذه السرعة نتيجة نقص التمويل والتقاليد الإدارية الثقيلة، والإجراءات القضائية. حتى لو لم يكن في الجزيرة سوى عدد ضئيل من السكان، فإن نزع الملكية عنها قد يستغرق عقوداً طويلة.
في الأيام القادمة، من المتوقع وصول أموال طائلة مقدّمة من المانحين، والتي ستقع بقبضة أصحاب الثروات الطائلة ولن ينال منها المواطن الفرنسي شيئاً. أما الاليزيه فهدفه وضع سلطة قادرة على قيادة ترميم الكاتدرائية، وتحويلها إلى “جزيرة المدينة”. فعقب وقوع الحادثة بيومين عقد مجلس الوزراء جلسةً طارئة توصل خلالها إلى اتخاذ ثلاثة قرارات مهمّة: تعيين قائد هيئة أركان الجيوش السابق الجنرال جان لويس غورجيلان ليكون ممثلاً عن الاليزيه لقيادة المهمّة الخاصة بغية الاهتمام بتقديم وتسريع الإجراءات والأعمال الخاصة بهذا المشروع. والضغط على البرلمان لتبني مشروع مرسوم يتضمن جمع التبرعات وتسوية تعيين الجنرال غورجيلان الذي بلغ سن التقاعد واستثناء مهمته من كافة إجراءات العرض والطلب، وقوانين حماية التراث وكل القيود المحتمل ورودها. وإطلاق منافسة دولية للعمارة من أجل ترميم نوتردام. وأخيراً خنق أي نقاش حول أسباب الحريق لتجنّب إطلاق تحقيق قضائي من شأنه التشويش على هذا التنسيق.
ولعلّ تأكيد نائب الجمهورية العام، ريمي هيتز، أن البصمة الإجرامية غير موجودة وأن الحريق وقع بسبب خطأ أثناء قيام إحدى الورشات ببعض الإصلاحات في الكنيسة يدلّ على تحضير رواية رسمية لا تستدعي إجراء تحقيقات مطولة، لذلك فإن فكرة تحويل هذا الصرح الديني والتاريخي العظيم إلى معلم سياحي باسم “جزيرة المدينة” يجب أن تُعاد إلى دائرة البحث والنقاش، لأن جميع الأسئلة مشروعة ولكن في ظل غياب تحقيق شفاف لن يكون هناك أي إجابات شافية.