روايات “عبير”!؟
د. نهلة عيسى
أظن, وظني بنكهة اليقين, أن من يتابعون الدراما الرمضانية السورية, يخالون أنفسهم في رواية من روايات “عبير”, وروايات عبير لمن لا يعرفها, هي سلسلة كتب جيب مُعربة للمراهقين واليافعين وراكبي العربة الأخيرة في قطار الرومانسية الرثة, كانت تصدر في ثمانينيات القرن العشرين, وكل قصصها كانت إعادة تدوير وتقييف لقصص “سندريلا, والأميرة النائمة, والشاطر حسن, وصاحب الظل الطويل, وو..الخ”, حيث المال يشتري الحب, والخيانة مجرد ثأر من حب منتزع, والبطل صاحب المكان والزمان يجول في عالم سرمدي ليس فيه أحد يقول له فيه: ثلث الثلاثة كام!؟ ويتظاهر كل من في عالمه, بما فيهم رجال الشرطة والقانون, بأنهم لم يسمعوا ولم يروا, لدرجة أن المرء يتمنى لو كان “جبل” في الهيبة, حيث لا هيبة سوى لجبل, في وقت تحترق فيه أوطاننا بسبب جبل والمسلسلات التي تكرس جبلاً, بطلاً يحتذى!؟ والغريب أن الشاشات الوطنية تشارك في الزحام على “عبير”, قافزة فوق واقع فقدت فيه كل الأشياء قدسيتها, وحيث يجب أن يكون الشرطي على الشاشة رغم كل العوار هيبة, والمارون عزوة وظهراً, وسيفاً ضد الغدر, دون السقوط في فخ تسطيح الأشياء, واختزالها في عبارات متناقضة, أبيض وأسود, مرعب وآمن, طيب وشرير, قبيح وجميل, لأن القضية أكبر من ذلك بكثير, إنها الحرب.. حيث لا مقدس, ولا حرمة, وحيث الفاجر والسارق والمارق سادة الرصيف والطريق, يروحون ويجيئون بين الناس جامعي اللقمة من الندرة, بصفاقة العارف أنه مهما فعل لن يحاسبه أحد, فالحق يحتاج إلى ساقين, وكل من في الشارع مُقعد!.
أراقب الشاشات, ودموعي حصى, وعلى اللسان ما يشبه العتب: آه يا بلد, حتى الوجع فيك يسرق؟ فيرد علي الصدى, وكل شيء يتابع الهرولة بسرعة لا تخلو من الغطرسة في المدينة, وأضواء المرور تبدل شاراتها بسرعة الموت, فتزداد أنفاسي ضيقاً, وتنتابني رغبة بالهرب من سباق الفئران, فأبحث عن شيء أليف حنون أحدق فيه, فتداهمني البرامج الإعلانية الغثة في مدينة تلتهمني, وتبصقني كل مساء على سريري حطام بشر, فأصرخ: طوبى للجائعين فيك يا وطن!!.
أدير الرأس عن الشاشة, وأشعل سيجارة ساخرة من قوانين مكافحة التدخين, فرضها العالم المتحضر, في زمن نحن فيه أعقاب سجائر في منفضة هذا العالم المتحضر, عالم الكوكاكولا والنيون والبيتزا, والبلاستيك والسيليكون, والبشر يوقتون إيقاعهم اليومي وفق سعر الدولار, يهبط الدولار, وتبقى مشانق اللقمة في الرقبة معلقة, مثل شجرة الميلاد, جميلة, بهية, مبهرجة, بغض النظر عن أن المسيح في النهاية صُلب! وأتوجع, ليس ثمة ما هو أكثر غروراً وزيفاً من الفرح في زمن تشنق فيه جثة المقتول بحجة الأمن, والقاتل طليق, ندٌ, وجليس مفاوضات, على طاولات العالم الكبير, والتلفاز ينهمر فيه الرصاص عبر الأخبار والمسلسلات البوليسية, فهل من حاجز هناك أختبئ خلفه؟!.
الشاشات دمار, وكأنه لا صباح ولا مساء, والبيوت دمار, والطرق دمار, وكلنا “دونكيشوت” نقاتل طواحين الهواء الوهمية, ولسنا في خطر, سوى خطر أننا لا نعرف ماذا نريد, وأننا لا نرسم الغد,وأخلاق الحرب سلطانة, والكل في”مزرعته”, زعيم, وبطل, وسيد مطاع, في مدينة الأحلام المكسورة, حيث يصادق المرء, أنياب كلاب المزرعة تنبح, بأنك أقل, فأنقلع, فتنقلع, قبل أن يقلعوا منك الكرامة!!.
الشاشات دموع, بل ربما عيناي, والهاتف يرن, وعلي أن أراجع الأسماء على الشاشة, رغم معرفتي أنها طلبات تلاحق طلبات, ووحدها أسماء من أحب لا ترن, تتمدد مثل السيدة الجميلة على الشاطئ تغطس قدميها في قلبي, وترفع رأسها إلى أعلى العليين, في السماء أحبتي يراقبون, تراني بعد رحيلهم سأحذف الأرقام, وأظنهم يبتسمون أنني ما جرؤت, على وهم أنهم ربما في قادم الأيام سيتصلون, فأتأكد أن الحرب وهم, وأنني كنت أغفو في رواية من روايات “عبير”!؟