تاريخ الكذب
د. نضال الصالح
ربّما باستثناء المشتغلين بالفكر ونقد الأدب، وليس بالضرورة هؤلاء جميعاً في الوقت نفسه، لا يتجاوز اسم المفكّر الفرنسي جاك دريدا، كما لا تتجاوز مؤلفاته، ندرة من القرّاء على الرغم من أنّ بعض تلك المؤلفات يتجاوز المعرفيّ البحت إلى الإنسانيّ المطلق، ومن ذلك محاضرته التي اخترت عنوانها عنواناً لهذه المادة، مضافاً إليها كلمة مقدمة، والتي كان دريدا قدّمها في المعهد الدولي للفلسفة في باريس سنة سبع وتسعين وتسعمئة وألف، وترجمها إلى العربية في كتاب صدر عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء قبل نحو ثلاث سنوات المترجم المغربي رشيد بازي، وصدّر الترجمة بتقديم عرّف فيه بالعلامات الكبرى لتحليلات دريدا، ولاسيما ما يعني الإجابة عن تساؤل هو: هل ثمة إمكانية لتشكيل تاريخ خاص بالكذب من حيث هو كذلك؟ في المحاضرة / الكتاب يستدعي دريدا تحليلات عدد من المفكرين والفلاسفة حول الكذب، ويرى أنّ ثمّة ضرورة للتمييز بين الكذب والخطأ على الرغم من اشتراكهما في قيمة واحدة هي البعد الأخلاقيّ من جهة، وفي هدف واحد هو الإخبار المفارق للحقيقة من جهة ثانية، فالكذب، بالإضافة إلى كونه خداعاً للآخر، إيذاء متعمّد بآن، على حين أنّ الكذب الذي لا يتضمّن هاتين الصفتين خطأ بحت.
ولعلّ أبرز ما يميز تحليلات دريدا نفسه تأكيده أنّ الكذب ملَكة، ففاعل فعل الكذب “ليس فقط هو الذي يملك القدرة على الكذب، بل هو الذي يميل إلى الكذب، وبناء على هذا فهو يختار الكذب ويأتي به عن قصد”، وهذا الأخير، أي القصد، هو ما كانت العرب اصطلحت عليه بالافتراء، أي نسبة صفة إلى موصوف ليست فيه ومنه بقصد الأذى عن سابق إرادة وتصوّر.
المحاضرة شديدة الثراء والغنى المعرفيّ بالكذب مفهوماً وتاريخاً، ومن بديع إشارات دريدا إلى كليهما، المفهوم والتاريخ، علاقة الأدب به أو علاقته بالأدب، أو صلة النسب القريبة التي تربط أحدهما بالآخر، بل حبل السرّة الذي لا ينقطع بينهما، ولاسيما أنّ الأدب فعل تخييل، وأنّ هذا الأخير، التخييل، شرط لازم لأيّ قول ينتسب إلى الأدب.
غير أنّه على الرغم من الإشارة الباهرة لدريدا فيما يعني انتقال فعل الكذب من الكتابة إلى الكاتب، فإنّه لا يفصّل القول في هذا المجال، أي فيما يصير فعل الكذب معه ومن خلاله لازمة في وعي بعض المشتغلين بالكتابة، أو مكوّناً من مكوّنات ثقافتهم وسلوكهم ويومياتهم، ونمطاً من أنماط الوجود الذي يضبط إيقاع حياتهم، وإلى الحدّ الذي يتجلّى الفعل معه بوصفه ثقافة حياة.
في باب “الخِلال المذمومة” من رسائل الجاحظ أنّ الحكماء لم تذمّ شيئاً ذمَّها أربع خِلال، أوّلها الكذب لأنّه، بتعبير العرب، جِماع كلّ شرّ، وأنّ ممّا كانت قالت، أي العرب: “لم يكذب أحد قطّ إلّا لصغر قدر نفسه عنده”.
الكذبُ نقيصة؟ بل نقيصة النقائص، ولذلك قيل: “رأس المآثم الكذب، وعمود الكذب البهتان”، كما قيل: “اثنان لا يجتمعان أبداً: الكذب والمروءة”.