في ذكرى العدوان على العراق الغطرسة الأميركية.. ومعاندة التاريخ
د. رحيم هادي شمخي
أكاديمي وكاتب عراقي
ما اعتبره العملاق الأميركي، أو ما ظنه العالم عملاقاً، حرباً خاطفة ضد العراق، سوف تنتهي سريعاً، تحول بعد أيام قليلة إلى حرب طويلة الأمد “صعبة وقاسية: كما وصفها القادة الأميركيون أنفسهم، وما أجبر هؤلاء، أمام المواجهة العراقية البطولية، على تبديل خططهم أكثر من مرة، ليس العسكرية وحسب، إنما أيضاً، الخطط النفسية والإعلامية التي تم التوافق عليها أثر اجتماعات متلاحقة وعلى امتداد ما يزيد عن الشهرين، بحضور عدد من الاختصاصيين في المجالات العسكرية والنفسية والاجتماعية. هي “حرب الكبار على الصغار” كما وصفها ثلاثة أرباع العالم، وهي “حرب غبية بأسلحة ذكية” كما رآها العالم كله، لكنها، وفي كل الأحوال حرب شرسة، إن لم تكن الأكثر شراسة وظلماً التي شهدتها البشرية، قديمها وحديثها، وحيث يعجز كبار المحللين عن تقدير حجم الخسائر في البشر والحجر، خصوصاً عند العراقيين كبيرهم وصغيرهم، نساء ورجالاً، الذين قرروا الدفاع عن بلادهم في وجه الغزاة مهما بلغت التضحيات والصعوبات، في حرب لا تقرر مصير الشعب العراقي وحسب، إنما مصير العالم في قلب العولمة الأميركية.
ليس غريباً أن تخسر بغداد حربها العسكرية، لكن القضية العراقية شكلت المفتاح الرئيس أمام دول المنطقة عن قرب الأهداف الحقيقية التي تطمع إليها واشنطن والتي برأي الأكثرية الساحقة من المحللين السياسيين، حتى الأميركيين أنفسهم، يرون في تسيير الماكينة العسكرية العملاقة ما يفترض قيام الامبراطورية الأميركية العظمى، وإلا فكيف نفسر معارضة فرنسا وروسيا وألمانيا وبلجيكا، حليفات الولايات المتحدة حتى الأمس القريب وفي كل حروبها المتعاقبة ما خططت له عراقياً؟ وأيضاً، كيف نفهم خروج واشنطن عن الشرعية الدولية وضربها عرض الحائط بالأمم المتحدة ومجلس الأمن وتقود جيشها إلى حرب ضد دولة تبعد عنها آلاف الكيلومترات بحجة امتلاكها لأسلحة دمار شامل ومناصرتها للفصائل الإرهابية؟
ربما يرى البعض في الانقسام ما بين أميركا وحليفاتها الأوروبيات “خلافاً عائلياً” آخر في سلسلة الخلافات التي نشأت خلال الستين سنة المنصرمة، ويشير بعض الخبراء إلى أنه كلما كانت الولايات المتحدة بصدد القيام بتحرك عسكري مهم، مثل نشر صواريخ “بيرشينغ” النووية في أوروبا بداية الثمانينات، كانت القارة الأوروبية تكشف عن معارضتها لترضى بعد حين بالوضع الراهن، لكن الأمور ليست اليوم على هذه البساطة، ولا الأوروبيين الذين ظلوا لعقود طويلة خارج القرار العالمي في منأى اليوم عن التهديدات الأميركية المباشرة لمصالحهم السياسية والاقتصادية والأمنية، وهذا ما تبدى بوضوح من خلال التظاهرات الشعبية التي خرجت بالملايين في عواصم الدنيا منددة بحرب وضعت السلام العالمي على كف عفريت.
والحقيقة أن “أوروبا العجوز” كما وصفها رامسفيلد، كانت لتتزعم رأس المعارضة في وجه الغزو العسكري الأميركي للعراق لو لم تجد رأسها ولو متأخرة داخل المقصلة الأميركية، وبالتالي فإن أكثر ما يقلق الأوروبيين والناس عموماً في شتى أنحاء المعمورة هو العيش في عالم يصقله ويسيطر عليه بلد واحد هو الولايات المتحدة، وقد باتت، على حد قول جوزف جوفي المعلق السياسي الألماني “موضع شك وريبة من جانب حلفائها وأصدقائها قبل أعدائها”.
يتابع جوفي: “السيطرة الأميركية ليست عسكرية وحسب، فالاقتصاد الأميركي بحجم الاقتصادات الثلاثة التالية له مجتمعة، وهي اقتصادات اليابان وألمانيا وبريطانيا، ومع ٥ بالمئة من إجمالي السكان في العالم، تمثل الولايات المتحدة وحدها ٤٣ بالمئة من الإنتاج الاقتصادي العالمي و ٤٠ بالمئة من إنتاج التكنولوجيا الطليعية و ٥٠ بالمئة من الأبحاث والتطوير، وإذا تطلعنا إلى مؤشرات النمو المستقبلي، يلاحظ أن جميعها تصب في المصلحة الأميركية، فهي أنشط اقتصادياً وأصغر سكانياً وأطوع ثقافياً من أي بقعة أخرى في العالم، وتبعاً لهذه المعطيات، من المتوقع أن تتعزز قيادة أميركا خصوصاً في وجه “أوروبا العجوز” خلال العقدين المقبلين”.
والتوقعات لا تصيب دائماً مهما صدقت الأرقام والمعادلات.. صحيح أن الأميركيين يعتبرون أنفسهم دائماً أمة تحررية تقدمية، لكن التاريخ يشهد على أن كل أمة اعتبرت نفسها مميزة و”مباركة” يراها العالم بشكل مختلف، وقد اختصر شاعر الهجاء الانكليزي جون دريدن هذه الظاهرة بالقول: “حين بات الشعب المختار قوياً للغاية، باتت القضية العادلة على مر الوقت قضية باطلة”.
والسؤال البديهي أمام الترسانة العسكرية العملاقة وقد ضربت أطفالاً وشيوخاً ونساءً ومدناً في العراق: هل حولت القوة الأميركية قضيتها العادلة إلى باطلة؟ وهل بات على الولايات المتحدة أن تتعلم منذ الآن فصاعداً كيفية العيش في عزلة كاملة عن العالم، ولو حققت انتصارها على بغداد؟
نستعيد هنا وثيقة بول ولفويتز التي كتبها عام ١٩٩٢ وكان حينها مسؤولاً كبيراً في إدارة بوش الأول، حيث رأى بضرورة أن تتجه سياسة الولايات المتحدة الخارجية في عصر الهيمنة الأميركية نحو “المحافظة على تقدمنا وإعاقة نهوض قوى عظمى أخرى”…. والسؤال الحقيقي هو كيف ينبغي أن تستخدم أميركا قوتها؟
لقد قامت بذلك على مدى نصف القرن الماضي عبر التحالفات والمؤسسات العالمية وبطريقة جماعية، وهي اليوم تواجه تحديات جديدة ليس فقط بسبب ما فعلته إدارة بوش، فالنظام القديم يتغير، والتحالفات التي عقدت خلال الحرب الباردة ضعفت، وتجازف المؤسسات التي أقيمت لتعكس حقائق عام ١٩٤٥، مثل مجلس الأمن، بأن تصبح منطوية على مفارقة تاريخية، ولكن اذا رغبت واشنطن بمزيد من إضعاف هذه المؤسسات وتدميرها بالفعل، عن طريق نبذها وإهمالها فلابد من أن تسأل نفسها: ما الذي يحل محلها؟ وكيف للعالم أن يحافظ على سلام ترأسه دولة الرأس الواحد والرأي الواحد والسلاح الواحد؟..
أن العالم دخل اليوم وبفعل الحرب العراقية والعدوان على سورية واليمن وليبيا شباك أفظع الدكتاتوريات تحت شعار “دمقرطة” الأنظمة، الأحرى تدجينها بالأسلحة الذكية الأميركية وفي حرب وصفها كبار المحللين، غرباً وشرقاً بالأكثر غباوة وعبثية.