رغم جدواها الاقتصادية الزراعات الاستوائية.. محاولات فردية.. ودعم ورقي لأسباب مجهولة

لم تكن الموسيقا الأفريقية التي يستقبل الزائر بها وحدها من منحت المكان هالة السحر، والغرابة، والإحساس بأنك في بقعة تنتمي فعلاً إلى القارة الأفريقية، أشجار الموز، والبابايا، والجوافة، والأفوكا، وغيرها من أصناف الفواكه الاستوائية التي تحيطك بعد أن تجمعت كغابة استوائية مصغرة جداً، توصل ذلك الشعور بلطف، تفاصيل أخرى يكتمل المشهد معها تشعر بها عند زيارتك الأولى للمكان: طاولات، وكراس خشبية تنتمي للطبيعة، وبيت شتوي في وسطه مدفأة حطب، وبحيرة صغيرة تتزاحم فيها بتلات اللوتس، تمتد إلى أن تنتهي بمغارة متوسطة الحجم، كانت سبباً إضافياً في إطلاق اسم “المغارة الاستوائية” على فكرة فريدة من نوعها بدأت في عام 2014 بطرطوس في “قرية البلاطة الغربية” مع تحول آخر شهدته المنطقة لنمط مختلف من الزراعات الاستوائية بات الحديث عنا شائعاً في الساحل السوري.

“هؤلاء مجانين؟!”
ومع بداية تنفيذ فكرة مشروع “المغارة الاستوائية”، كان هناك استهجان ورفض من البيئة المحلية التي اعتادت لسنوات الحفاظ على زراعة نمط ثابت من الأشجار المثمرة كالحمضيات، والرمان، والزيتون، ووصف المجانين هو ما سمعه الصحفي حسن محمد صاحب فكرة المشروع مع أصدقائه حين بدأ بقص أشجار مزرعته من الرمان، وزرع أشجار الموز، وغيرها من الأشجار الاستوائية، كانت هناك نظرة سيئة جداً رافضة للفكرة، كما يقول، وغير قادرة على استيعاب تقديم مشروع جديد ومتطور يخدم المنطقة، وكان الحديث في ذلك الوقت أن زراعة أشجار استوائية في مكان كهذا، في مكان وبيئة لا تتوفر فيها كل الشروط، قد لا تكون مناسبة، إضافة إلى طبيعة المكان، وعدم وجود إطلالة، كان هذا الأمر بحد ذاته يشكّل مغامرة وتحدياً كبيراً، لكن حالة شغف بأمر معين جعلت الحلم يتحول لواقع، وكان الاستثمار لكل الأفكار، ومكونات البيئة المتوفرة، والتغلب على الصعوبات المختلفة، أبرزها تلك النظرة، إضافة لمصاعب الطقس والظروف الجوية، كما يقول الصحفي حسن محمد.

رحلات مدرسية
ومن فكرة مجنونة في مخيلة صاحبها إلى حالة واقعية اليوم، فالملفت أن هذا المشروع وبعد سنوات من تنفيذه تحول لوجهة سياحية في المحافظة، وإلى مكان يقصده طلاب المدارس، حيث يقول صاحب فكرة المشروع: اليوم ننظّم بالتعاون مع المدارس والروضات رحلات مدرسية لتقدم للطلاب والجيل الجديد أفكاراً عن هذه الزراعات، حيث يتوفر لدينا معرض كبير ضخم يضم فئات واسعة من الفواكه الاستوائية تعرض على الزوار، وتقدم بلغات مختلفة، منها الاسباني، والروسي، والانكليزي، والعربي، ونحن في الوقت نفسه نعمل على التواصل مع المغتربين، ودعوتهم لزيارة المكان، ولدينا مغتربون من فنزويلا، ومن دول أجنبية مختلفة تواصلنا معهم عبر الفيس بوك، كما أن لدينا أفكاراً إضافية لتوسيع المشروع عاماً بعد عام، فهناك دائماً أفكار نعمل على جعلها رديفة للمشروع مثل إنشاء فرق تخييم وكشافة في الموقع، وزراعة أنواع جديدة من الأشجار، والجدير ذكره أن المنطقة بأكملها اليوم تحولت بقسم كبير منها إلى إدخال أصناف من هذه الأشجار الاستوائية، وهناك ما يقارب الـ 16 مزرعة تحيط بنا، وتتوفر فيها تلك الأصناف والمزروعات الاستوائية.

أشجار متنوعة
هناك أصناف جديدة ومختلفة لم نسمع بها من قبل من الأشجار الاستوائية وغيرها يعمل القائمون في ذلك المكان على زراعتها ونشرها في البيئة الساحلية، حيث يتحدث آدم قاسم، مدير العلاقات العامة، عن صنف قاموا بالعمل على توزيعه في أكثر من مكان مثل شجرة المورينغا ذات الفوائد العظيمة، والهدف من ذلك، كما يقول آدم، إنشاء وتنشيط أفكار مزروعات يمكن أن تنجح في البيئة الساحلية، وتقديمها بأسعار مناسبة تنخفض عن السوق، وخلق حالة توازن قضت على جهل الناس بالفواكه الاستوائية، وأضاف: يمكن أن نقسم الفواكه الاستوائية لثلاثة أقسام من حيث التأقلم مع البيئة، فهناك الاستوائية المدارية القادرة على العيش لدينا مثل البوتشي سابوتا وايت (شوكولا بيضاء)، التنين الصيني، الجوافة، وهناك أصناف يمكن أن تنجح في البيوت البلاستيكية، ثم تنقل خارجاً مثل الشوكولا السوداء، القشطة، والمناغا، وهناك أصناف صعبة التأقلم مثل الأناناس، وجوز الهند، ويضيف آدم: المزارعون القدامى لديهم رمزية خاصة لليمون والزيتون، لكن المطلوب دائماً التفكير بطريقة مختلفة، ونشر ثقافة مختلفة، فالحمضيات اليوم لا سعر لها، ومواسم البندورة تصيبها الخسارة الدائمة، في حين نجد أصنافاً استوائية أخرى منتجة ولكن محتكرة مثل المانغو التي يتم تخزينها في برادات، وبيعها من قبل تجار ومحتكرين.

رعاية غائبة
من حقنا أن نسأل أنفسنا: أين مراكز أبحاثنا العلمية الزراعية عن هذا النوع من الأصناف؟ وهل قامت بجهد ما لتلقف هذه الأفكار ودراستها وتعميم زراعتها في بيئة جديدة تناسبها من خلال تقديم الشتول، والتربة المطلوبة، وتقديم ما يحتاجه أصحابها من خبرة ومشورة فنية بحثية تكفل نجاح التجربة، والاستفادة من هذه المشاريع؟ أما اكتفت هذه المراكز ببعض التبريرات والملاحظات التي قد نسمع بها من هنا أو هناك؟ وبعيداً عن التحرك لزيارة هذه المشاريع والاطلاع عليها عن كثب، وبحسب ما قاله لنا حسن محمد فإنه لم يتلق أي دعم من هذه الجهات المعنية المكلّفة أساساً بدراسة هذه التجارب، وإمكانية نقلها لمراكزها البحثية، والقيام بما يجب بغية تقديم النتائج المطلوبة لتعميم التجربة، وتحقيق مردود زراعي واقتصادي للدولة والمواطن معاً، وتوفير عناء استيراد هذا النوع المكلف، وحصره ببعض الفئات الاجتماعية الميسورة جداً، لا بل ربما، ومن باب الاستنتاج، لم يجد هذا الحماس المطلوب لتشجيعه ربما لغاية عند البعض بحصرية هذه التجربة في مشاتله الخاصة، والتحكم ببيعها بعيداً عن المنافسة وثقافة التعميم، وهذا أيضاً محل طرح الأسئلة لدى أصحاب القرار في مركز البحوث العلمية، حيث التبعية المركزية، ولنا معه تجربة مماثلة في الحديث عن تجربة الرز الهوائي، لتكون هذه القضية الهامة برسم مركز البحوث العلمية الزراعية للمساعدة في تبني ورعاية مثل هذه التجارب، وتقديم كل الخبرة والمساعدة بغية التوسع في تجربتها ونقلها خارج نطاق التجربة الفردية، لاسيما أن هناك أكثر من تجربة فردية على مستوى جغرافي محدود في محافظة طرطوس، وأصحاب هذه التجربة يطمحون بتبني أفكارهم الزراعية من قبل مركز البحوث لتعميم الفائدة المرجوة من زراعة هذه الأصناف الاستوائية الغريبة عن بيئتنا.

دعم ورقي
في كل دول العالم، ولاسيما تلك التي تعرّضت لما نتعرّض له نحن في سورية من حرب مركبة الأبعاد والأهداف، وكذلك الوسائل، وأخطرها الحصار الاقتصادي، ومحاصرة الشعب في لقمة عيشه بهدف التأثير عليه وجعله رهيناً للضغوط، تعمل هذه الحكومات، وتوجد تجارب سابقة في دول بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قامت باستحداث ودعم المشاريع الصغيرة بغية تحريك عجلة الإنتاج، وخلق فرص عمل، وغيرها الكثير للحفاظ على هذه المشاريع، وجعلها تدر أرباحاً تكفل تأمين مداخيل شبه ثابتة لأصحابهاً، وأيضاً بغية خلق فرص عمل لعدد محدود من العاطلين عن العمل من خلال منح بعض المزايا والعطاءات المشجعة لزيادة عدد هذه المشاريع وتنوعها، وعلى هذا الأساس أدركت حكومتنا أهمية هذا النوع من المشاريع، ووعدت بمنحها مثل هذه المزايا التفضيلية لجملة من الاعتبارات، وكذلك عمدت كثيراً لعقد الندوات والاجتماعات للتعريف بحجم الدعم المنوط، ورغبتها بزيادته بما يضمن تحقيق قفزة نوعية تسهم في رفد المشاريع بتحسين مجمل الناتج المحلي للفرد والدولة معاً.
ولكن للأسف بقيت مجمل هذه الوعود تنظيراً بتنظير، وحبراً على ورق للحالمين بدعم مشاريعهم الفردية الصغيرة، ومنها هذا المشروع، لا بل من المفارقة أنه لقي معوقات وصعوبات أقلها عدم وجود جهة رسمية تتبنى مشروعه، وتقدم له الدعم المطلوب، سواء من خلال منحه القرض المناسب بضمانات العقار ذاتها، أو منحه بعض التسهيلات والإعفاءات، ولكن الأخطر، بحسب ما تم نقله لنا من قبل جهات رسمية، مطالبته بضريبة مالية مقطوعة مقابل ما “قد” يقدمه من بعض الخدمات البسيطة كضيافة مجانية، أو بأجر رمزي للغاية لمن يقصده للتمتع بالمنظر العام، أو لمشاهدة بعض أعماله الزراعية، وما أضافه من لمسات جمالية شخصية أعطت للمكان بعداً رومانسياً حالماً، وكأنك فعلاً في مكان ينقلك لبعض الغابات والأشجار الاستوائية في أفريقيا، أو أمريكا اللاتينية، حيث المناخ المختلف، ووجود بعض المزروعات والأشجار التي نراها فقط من خلال ثمارها غالية الثمن، وهي حكر لبعض العائلات، ولبعض تجار هذه الأصناف المربحة، ولها زبائنها المحددون، ويستغرب صاحب المشروع في حديثه لنا ولغيرنا، حيث سبقتنا وسائل إعلامية محلية وغيرها لزيارة مشروعه والاطلاع عليه كونها تجربة تشكّل حالة أو حالتين فقط على مستوى المنطقة الساحلية، وهذه المنطقة فقط التي “تتملك” البيئة المناسبة للبيئة الأساس من حيث المناخ والأمطار، وكان الاستغراب من قبل الضيوف الزائرين: لماذا تغيب هذه المشاريع عن اهتمام الجهات الرسمية المحلية أو المركزية؟!.
ولدى سؤالنا مديرية السياحة، أجاب مصدر في سياحة طرطوس بأن فكرة هذا المشروع غريبة بعض الشيء عن نوعية القروض الممنوحة للمشاريع المصنفة بالسياحية، وبالتالي لسنا الجهة المخولة بدراسته وإعطائه الترخيص المطلوب!!.

خلاصة
من خلال زيارتنا للموقع، واطلاعنا عن كثب على واقع المشروع وتكاليفه، وحماس صاحب المشروع، وربما خبرته المتواضعة في هذا المجال كونه بعيداً عن اختصاصه العلمي، فقد وجدنا حالة فيها من الرغبة بإحداث بعض التغيير في فكرنا، سواء الاقتصادي، أو الزراعي، والعمل على تحسين مداخيل فردية هي أساساً أبعد عن كلمة مداخيل بالمعنى الاقتصادي، وكذلك العمل على خلق بيئة ربما تكون غريبة عن بيئتنا، ولكن من الممكن التعويل عليها كونها تتشابه مع البيئة الأصل من حيث الحرارة المعتدلة، أو الدافئة، وهذا ما لمسناه بالعين المجردة، وأثبتت نجاح التجربة، وإن كانت خجولة لحد ما، ومع ذلك فإن الغائب الأكبر وراء كل هذه التجربة هو وزارة الزراعة، وبقية الجهات المعنية بدعم هذه المشاريع، لا بل ربما وضع بعض “العصي” في دواليبها لغاية يبدو ظاهرها بريئاً، وباطنها ربما عدم حماس الكثير من موردي بعض الفواكه الاستوائية، واحتكارها بشكل شخصي وتجاري كوكالة حصرية بغية التحكم بأسعارها الفلكية لأن لها زبائن محددين، في حين لو تمت عملية التوسع بزراعة هذه الأصناف في حقول مناسبة، وانتشرت بطريقة علمية وزراعية، وكذلك حققت رواجاً شعبيا، فإنها تشجع الكثيرين لهذه التجربة، الأمر الذي من شأنه تناول معظم أبناء المجتمع لهذا المنتج، مع أننا للأسف قسم كبير من أبناء المجتمع السوري، ربما يسمعون به أو يرونه في الأفلام فقط، أو من باب الدعاية الإعلامية، فهل تتلقف الجهات المعنية من وزارة الزراعة وغيرها لتقديم الدعم المطلوب لهذه المشاريع الفردية بالطرق التي تراها، أم تبقى رهينة المحاولات الفردية غير المشجعة للاستمرار نظراً لضعف الإمكانيات، وفي هذه الحالة يكون مصيرها كمصير نماذج كثيرة تخلت الحكومة بأذرعها المتعددة عن دعمها، في حين بقيت مراكز الحدود شاهدة على تسلل أو دخول هذه الأصناف، وبيعها لنخبة من المواطنين؟!.
لؤي تفاحة– محمد محمود