يحدث أن…
د. نضال الصالح
وما أكثر ما يحدث! يحدث أن يتوهم أحد بأنه مبدع، فيتخم العالمين الواقعيّ والافتراضي بكلمات دائخة شائخة، لا يربط بينها قصدٌ، ولا تفيد معنى، ولا تنتهي في خاتمتها إلى شيء. ثم يحدث أن يسمّي ذلك شعراً، فيكون أيّ شيء سوى كونه كذلك.
ويحدث أن يكتب أحد ما يعتقد أنه رواية، فيطوف بمخطوطها على غير ناقد وقارئ، وعندما يقول أحد له إنّه بدّدَ وقته وماله فيما لا ينفع، وأنّه لا يبقى في ذاكرة القارئ من بديعته سوى ما كان وقت القراءة وحدها، يبدأ بشكوى لا تهدأ عن قوى مرئية وغير مرئية تستهدف “الإبداع” الذي تسفحه أوهامه على الورق.
ويحدث أن يبلغ أحد سن الستين أو السبعين من العمر، ويكون أمضى عقدين أو ثلاثة أو أربعة وهو يكتب وينشر، ولم يُعنَ أحد يوماً بما كتب ونشر، فيتابع الكتابة والنشر مصراً، وملحّاً، وموقناً، ومؤمناً، وراسخاً في العلم، علمه هو، أنّ ثمة قوى غاشمة تترصد به وبإبداعه، وأنّ القراء، القراء جميعاً، أحد اثنين لا ثالث لهما: جاهلٌ، أو نصف متعلّم.
ويحدث أن يباغتك أحد بما يقع على رأسك وقوع الصاعقة ممّا لم يكن ممكناً أن يخطر لك على بال أبداً، فتستعيد ما كانت العرب قالت: “أبدى الصريحُ عن الرغوة”، أي تكشفت الحقيقة بعد استتارها.
ويحدث أن يهرف أحد بما لا يعرف، ويزعم أنه يعرف، بل يجادل مَن يعرف بحقّ، ويصرّ على أنه يعرف، وهو ليس له من المعرفة سوى ما لبدائيّ في غابة مستغرقة في قطيعتها مع حركة التاريخ، بل مع ما قبل التاريخ، بآخر ما بلغته المغامرات الفكرية من التعدّد، والتنوّع، والغنى، والاختلاف، والأطروحة الجديدة والأطروحة النقيض، وسوى ذلك ممّا يحيل على غير صفة يصعب، بل يكاد يستحيل، على غير المختص في هذه المغامرة أو تلك عبور العتبة الأولى من قلاعها المعرفية العالية والمنيعة.
ويحدث أن يلغو أحد عن أحد، فلا يكتفي بالباطل، بل يمعن في اللغو حتى يداري الباطل وجهه حياء من معاجم اللغة لأنّ اللاغي يخرج بهذا الباطل إلى تخوم الإفك، والافتراء، والتخرّص، والهُذاء، والتلفيق، والخطل، والفرية، وسوى ذلك ممّا ينتمي إلى المجالين المعجمي والدلالي للباطل، بل يوغل في أرضها حتى يكاد يصيرها، فيرمي الآخر المختلف بما يوسوس له شيطان الغيرة، والحسد، والكراهية، والبغضاء، والغلّ، والشناءة، إلى أن يبلغ ذلك به ما كانت العرب قالت: “النار تأكل بعضها إنْ لم تجد ما تأكله”.
ويحدث ، بل يجب أن يحدث، أن تنهض كلّ صباح، فتتفقد مفردات روحك، وتتأكد من أنّ كلّ مفردة لمّا تزل في مكانها الذي فطرت عليه، وأنه ما مِن مفردة أصابها عطبٌ أو صدأ، أو نال من خلْقها الأوّل جرحٌ أو تلَف وأنّ كلاً منها كما اخترتَ له أن يكون، وأنّه ما مِن زيفٍ، أو خديعة، أو خيبة، تمكّنَ من أن ينال من الإنسان منك وفيك. الإنسان، الإنسان، صورة الله وشبهه.