عندما تكون “اللقطة” من أهم أبطال العمل
لاشك أن التصوير الفوتوغرافي يعتبر واحداً من أهم الاختراعات التي شهدها تاريخ البشرية، فهو ينقل إلينا مشاهد مختلفة من العالم تبعد عنا آلاف الأميال مكانياً وعبر مختلف الأزمان، إذ تقوم الكاميرا بعملية التصوير لالتقاط مشاهد من حياتنا تبقى لسنين عديدة، ولطالما استطاعت أن تلتقط أبعد اللقطات لتكون في بعض الأحيان صورة نستعيد من خلالها الذكريات الجميلة -كما اعتدنا عليها- أو الحزينة، وفي الوقت نفسه قادرة أن تجسد تاريخاً كاملاً تتكلم عنه بصمت جارح.
اعتدنا في كل موسم رمضاني على دراما مميزة، وفي “مسافة أمان” استطاعت كاميرا “يوسف” -جسد الدور الفنان قيس الشيخ نجيب- أن تحكي ويلات الحرب وتنطق بأنين الأطفال المزروعين في الشوارع الباحثين عن الأمان، ورغم عدم حصولهم على حقوقهم إلا أنهم استطاعوا التحلي بالشجاعة وابتكار أفكار وأدوات يستطيعون من خلالها تأمين متطلبات حياتهم البائسة من دفء وطعام.
هناك أنظمة للكاميرات تستطيع أن تخترق ضباب المدينة الدخاني لتمييز ملامح الجسم البشري على بعد مسافات شاسعة، ولقطة الفنان الشيخ نجيب في “مسافة أمان” استطاعت اختراق القلوب، فكانت بطلة المسلسل ليس لحدث مفاجئ فقط، بل لحكاية حرب مازالت مستمرة حتى إن لم تكن بالنار والأسلحة.. حرب تركت آثاراً مدمرة وجروحاً غائرة في قلوب من عاشوها واكتووا بنارها وجبروتها، فتتفكك العلاقات ويصبح رابط الحب أضعف، ومن هنا تتولد الحاجة لمسافة الأمان تجاه الخطر الذي يحدق دون معرفة مصدره مثل خطر الفشل وخطر الخيانة وخطر البطالة.
في هذا المشهد من العمل وفي ليلة باردة جداً يقوم طفل مشرد في شوارع دمشق القديمة باللجوء إلى سيارة كبيرة باهظة الثمن لأحد زوار المطاعم، يقف ويضع يديه أمامها ليدفىء يديه على محركها الساخن، وفي هذه اللحظة يلتقط “يوسف” الصورة بسرعة، ويتحدث عن حلمه في أن يجول بصوره العالم بعد أن تهشمت أمنياته قطعاً قطعاً، “يوسف” الرسام والمصور الفوتوغرافي، يبحث عن مسافة أمان خاصة به بين الحب والرغبة في السفر بعدما فقد حماسه للعمل بفعل ملاحقة أشخاص مجهولين له ووفاة خطيبته وشعوره بالذنب تجاهها.
مسافة الأمان المطروحة في العمل هي المسافة من كل الأخطار المحيطة بنا وآخرها الحرب، فكل إنسان حاول وضع مسافة أمان لنفسه سواء من الحب أو الحرب أو العلاقات الإنسانية أو الأخلاق، وفي العمل إجمالاً يبحث الجميع عن هذه المسافة، ورغم وجود الكلمة في عنوان العمل إلا أن الطفل –صاحب الصورة- هو الوحيد الذي لم يحتج مسافة الأمان هذه تجاه أي خطر، وإنما قرر كسر هذه المسافة لكي يحظى بأكبر قدر من الدفء في وقت قصير يستطيع البرد القارس انتزاع هذه الفرصة وإنهاء لحظات الدفء التي لن تتكرر إلا بحلول ضيف آخر بسيارته الكبيرة. في النهاية لطالما كانت الدراما مرآة الواقع، وسنوات الحرب التي مرت بالبلاد أفرزت الكثير من الأزمات سواء النفسية أو الاجتماعية وغيرها، والدراما تكون ناجحة عندما تمتلك القدرة على ملامسة قلوب الآخرين، فبصورة الطفل الصغير استطاع مسلسل “مسافة أمان” –إخراج الليث حجو وتأليف إيمان سعيد- ملامسة قلوبنا وأرواحنا، وبالتأكيد ستبقى تاريخاً وشاهداً على ما فعلته هذه الحرب من دمار في بيوتنا وشارعنا وفي نفوس أطفالنا.
جمان بركات