أثر الفراشة في زمن الكوليرا
كنا تحدثنا بداية الموسم الدرامي، عن اشراقات فنية درامية، تنبئ لمعتها بعودة الروح للدراما المحلية، بعد سنين عجاف، طوال، لغيابها القسري عنها؛ فترة انحدار فني عام، لم تبدأ منذ بداية زمن الحرب، كما تم تقديم هذه الإشاعة والترويج لها، بل تعود لأكثر من عقدين من الزمن، وهذا التفاؤل لعودة الروح للدراما التلفزيونية السورية، ليس “كلام جرائد” كما يُقال، فالعديد من المسلسلات التي تحدثنا وغيرنا، محليا وعربيا، عن الجودة الفنية العالية التي ظهرت بها، بإشادة جيدة إن كان في مستواها الفني أو على مستوى الحكاية الأدبية ورسم السيناريو والحوار، والعمل الشاق على تحويل تلك الحكاية إلى مسلسل من لحم ودم، بشخوص وحبكات وتصوير وصوت وإخراج، حقق انسجاما راقيا بين ما سبق ذكره، لتظهر تلك العناصر باجتماعها، كأوركسترا منضبطة بمزاج العمل الفني لا الشخصي لتلك الأعمال.
واحد من تلك الأعمال ذات المستوى الفني الراقي الذي ظهر هذا الموسم هو “أثر الفراشة”، المأخوذ عن واحدة من أهم وأجمل روايات الراحل المبدع “غابرييل غارثييا ماركيز”-1927-2014- وهي (الحب في زمن الكاميرا)، ورغم صعوبة تحويل تلك الرواية وربما معظم روايات هذا الكاتب الفذ، إلى عمل درامي (مسرحي، سينمائي، تلفزيوني) والتي تم تحويلها إلى فيلم سينمائي عام 2007-أخرجه مايك نويل وحمل اسم الرواية نفسها، إلا أن الكاتب المخضرم “محمود عبد الكريم” كاتب السيناريو والحوار للعمل، استطاع بدراية أن يوطن الحكاية ويحولها فنيا لما يناسب خصوصية الجمهور، المكان، الزمان الممتد من سبعينيات القرن الفائت حتى اليوم، رافعا مستوى التحدي للمخرج الشاب “زهير قنوع”، الذي قام بإخراجه بفنية عالية المزاج، بعد أن استطاع كل من الكاتب والمخرج الاشتغال على الثيمة الأهم في الرواية وإبراز العديد من جوانبها الجمالية الحسية، ثيمة الحب، وقد كادت تختفي تقريبا بطبيعتها الرقيقة، الرهيفة من أعمالنا المحلية، بعد أن تم تشويه قيمها ونبلها، باستبدالها بأعمال مبتذلة،بدأت موجتها بالانحسار والتراجع عند الجمهور، الذي بدأ بالاستيقاظ من غيبوبة “مهند ولميس”، وهذا ما نلمسه من إقباله على الأعمال الدرامية التي تحترم عقله وتخاطب وجدانه، فوجود البضاعة الجيدة، يبز البضاعة السيئة، والعديد من الذين انساقوا من المشتغلين بالدراما التلفزيونية المحلية–المعمولة عموما هذا الموسم بكوادر فنية سورية خالصة-ولو نسبيا خلف تلك الموجة الرخيصة، أدرك كم هي الخسارة كبيرة، في الاستثمار بتلك الأعمال التي ترفع راية البشاعة والسطحية، باللعب على الوتر الغرائزي، نزولا عند رغبة شركات إنتاج خارجية وداخلية، لم تعد نواياها التجارية الرخيصة خافية على أحد.
“أثر الفراشة” عنوان المسلسل الآنف ذكره، والذي هو اسم لظاهرة علمية فيزيولوجية (الشواش)، قبل أن يكون عنوانا لديوان شعري شهير، حمل اسم واحدة من القصائد الوجدانية التي كتبها الشاعر الفلسطيني “محمود درويش”-1941-2008- وجاءت في الكتاب الشعري نفسه، لا يزال أثرها المشحون بالعاطفية والشعرية التي يعتبرها الفيلسوف (أرسطو)-384 ق.م،322 ق.م-مكمنا للحقائق الإنسانية باعتباره أي الشعر-وبشكل مُبسط-يقدم الحقيقة بطريقة وجدانية وتلقائية أعمق تأثيرا، يحيا أليفا في قلوب العشاق وحيواتهم، وبهذا الاسم الذي حمله المسلسل القادم من عوالم الرواية اللاتينية الساحرة، يكون صُناع العمل، استطاعوا وبذكاء، الاستفادة مسبقا وبشكل إيجابي، من فن الرواية وفن الشعر، والعمل على تطويع الجمال الباذخ في كل منهما لصالح العمل ولصالح الجمهور، الذي تم شدّ انتباهه من أطراف قلبه بمقولة “أثر الفراشة”، الذاهبة مباشرة نحو وضع الحب وطاقة لطافته رغم القسوة التي تحيط به، في مواجهة القبح وبشاعة الحروب وما تخرجه من جوفها المستعر، ورغم الصعوبة التي تترافق كما أسلفنا في تحويل عمل روائي قادم من عوالم “غامبو” والسحرية الواقعية التي تسم معظم أعماله، وضعت المخرج أمام خيارات قليلة في مذهبه الإخراجي الذي بدأ يتضح للجمهور، الذي يتسم عامة بالتجريب الذكي، سواء بانتقاء زاوية الكاميرا والجهة أو الجانب الأنسب والأكثر ملاءمة الذي يجب أن تظهر منه تلك اللقطة في ذلك المشهد، أيضا اختيار الكادر وجعله من أبطال العمل، عدا عن اشتغاله الواضح على الممثلين عموما، خصوصا وأنه يوائم فنيا بنجاح، بين ثلاثة أجيال من الممثلين، المخضرمين، ومنهم الفنان الكبير “عبد الهادي الصباغ”، وبين الجيل الذي جاء بعده، وفيه أطلت الفنانة البديعة “نورا رحال”، وأيضا جيل الشباب الذي حضر فيه أكثر من ممثل شاب، تميزوا بمعظمهم، ومنهم الفنانة الشابة “ريام كفارنة”،أيضا عودة العديد من الممثلين عادوا للظهور مرة أخرى في الدراما المحلية بعد أكثر من غياب، وهذا يُحسب للمخرج الشاب، الذي تعامل بحنكة مع ورق –سيناريو- من العيار الثقيل، أعده وكتبه أيضا كاتب من العيار الثقيل، لتجيء النتيجة مشرقة كما في الصورة والحكاية والأداء، تماما مثلما خطط صُناع العمل، عدا عن الخلفية اللونية المشرقة والمائلة نحو تدرجات اللون “الوردي”، وما لها من أثر عميق في النفس البشرية.
في بداية الشارة تظهر عبارة “للعشاق فقط”، وهي من الهفوات القليلة في العمل، فجميعنا وليس العشاق فقط، نحتاج لجرعة من الحب تتسامى فيها النفوس وهذه مقولة العمل عموما، عدا عن كونها تصادر على المتفرج فرجته، ورغم فهمنا لطبيعتها الدعائية، لكن ثمة مشكلة بكون هذا التخصيص، عملت واحدة من (لروائيات) على جعله باهتا لكثرة استخدامه، لذا كان من المفضل عدم استخدامه. الجمهور الذي يجد في الدراما عموما والتلفزيونية بشكل خاص لسهولة وصوله إليها ووصولها إليه، أحلامه وأمانيه ونكساته وحزنه وفرحه، كان مع المسلسل على موعد عاطفي وإنساني في العمق، مسلسل جاء بمثابة دعوة مفتوحة للحب في زمن الكوليرا هذا.
أثر الفراشة ينتمي لنوع “رومانس-اجتماعي”، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي، وبإشراف عام للمخرج زياد جرجس الريس.
تمّام علي بركات