كيمياء الفرح والحزن
يقول مالئ الدّنيا وشاغل النّاس:
ولكنّي حُسدتُ على حياتي وما خيرُ الحياة بلا سرور
هل كان المتنبّي فرحاً حقّاً بحياته إلى هذه الدّرجة؟ إذا كان كذلك فهذا سيخفّف من حدّة شعوره وشعورنا على الأقل تجاه نهايته الدراميّة على يد قطّاع الطّرق. هذا على صعيد الحياة الدّنيا، أمّا ما بعد الموت فتصوّرات الكائن البشري للسّعادة القصوى في جنّة الخلد حيث اللّاهموم والشّفافيّة المطلقة، فتعكس أحلامه وأجوبته على أسئلة الحياة الوجوديّة المقلقة، ومحاولة إعطاء مبرّر وهدف ومعنى ما ورائي لوجوده ذاته، فهناك في الأعالي الغامضة، تتمّ مكافأة الصّالح الذي تقيّد بتعاليم الآلهة ومعاقبة المسيء الذي تجرّأ على العبث بها. وهذا ينضوي تحت قوس معادلة الفهم الذّاتيّ للسّعادة والشّقاء الاجتماعي الدنيويّ وتعميمها على الكون أجمع. يقول محمد عوض “الواقع أنّ العامة يرون السّعادة إشباعاً للرّغبات والشّهوات والنّزوات وهذا ضرب من السّعادة الحيوانيّة” من الواضح تماماً، أنّ الكاتب لا يفرّق بين الجانبين الذّاتي والموضوعي من السّعادة. فالإنسانيّ لا ينقض الحيواني، بل يتجاوزه ويتضمّنه ويسمو به عالياً. فالسّعادة حسب بعض الفلاسفة لا تغليب فيها للجانب الماديّ على الروحي ولا العكس، بل هي تشمل الاثنين معاً، فالتقدّم الحضاري يجب أن ينعكس منطقياً بالرّفاه والسّعادة على المجتمع، لكنّنا نرى النتيجة مغايرة تماماً. أي المزيد من الحروب والدمار والشّقاء البشري والأمراض المستعصية. وما أصعب ذلك كلّه على صاحب العقل والمنطق والرؤية الرّزينة. يقول المتنبي:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله وأخو الجهالة في الشّقاوةِ ينعمُ
بهذا المعنى نستطيع القول بتهكّم: ما أكثر السّعداء في هذا العالم!.
كلّنا يعلم أنّ من مظاهر السّعادة: الضّحك والرّقص والفرح عموماً. ولكن الغريب أنّ هذه المظاهر قد تعكس نقائضَها أيضاً. يقول شاعر:
لا تحسبوا رقصي بينكم فرحاً فالطّيرُ يرقصُ مذبوحاً من الألم
وهذا ما أوضحه الممثّل الكوميدي المصري “سعيد صالح” بقوله: غالباً ما يأتيني الضّحك في المواقف المحزنة جدّاً فأنا أضحك في لحظات القهر وفي الظّلم وفي الموت أضحك، لقد ضحكتُ بعد جنازة أمّي ويومُها سهرتُ مع عادل إمام وظللنا نضحكُ حتى الصّباح.
هنا أتذكّر قصّة قصيرة حفرت في ذاكرتي خطّاً طويلاً لم تردمه الأيّام، للقاص السوري “عبد الله عبد” ملخّصُها، أنّ البطل ضحك ضحكة مشبعة بالبكاء الدّاخلي، وهو العائد من المرفأ في منتصف الليل بعد يوم عملٍ مجهدٍ طويل قضاه في مراقبة تفريغ السّفينة من مادة السّكر، ومشاهدة كيفيّة هدره من خلال ثقوب الأكياس. كان يمنّي النّفس بالتهام بعض قطع البطاطا المقليّة عند عودته، ويحلم بتتويجها بكأس من الشاي الفخم الذي تُجيد زوجتُه تحضيرَه، لكن للأسف، ما كان ينتظره عكس ذلك تماماً، وهو عدم وجود مادة السّكر في البيت، ولا التدفئة التي تضطّر زوجتُه لتأمينها بإشعال وابور الكاز، علّه يشيع بعض الدفء في أوصال البيت المتجمّدة. هكذا تنطفئ شمعة حلمه البسيط فيضحك ضحكته الباكية تلك.
تاريخيّاً، هناك من قال بأنّ منشأ الضّحك كان في زمن الإنسان الأوّل حين كان يرتحل إلى الصّيد والغزو. فيظهر الارتياح على وجوهه أثناء التّغلّب على العدو أو حين فراره، أو القضاء على الطّريدة. ويرى البعض الآخر بأنّ منشأ الضحك يكمن في الكراهيّة والعدوان. يقول “أبو علي ياسين” هذا الرأي يمثّل نصف الحقيقة، فالبدائيّ يضحك بعد قهر العدو واقتناص الطريدة مثلما يضحك لإيجاد الماء بعد العطش مثلاً!. أيّ في حالة الفرح بعد الشدّة دون ارتباط حتمي مع العدوان وأنا أرى الضحك فطريّاً كما البكاء، فهو انعكاسٌ لفرحٍ نعيشه في لحظة ما، يقول المعرّي:
فلا تحسبوا أدمعي لوجدٍ وُجِدتُه فقد تدمعُ العينان من شدّة الضّحكِ
وعند “أبي نواس” يبدو الضّحك من ضرورات المسامرة وتعميق المعرفة الروحيّة بالآخر:
إنّي أنا الرجلُ الحكيمُ بطبعه ويزيدُ في علمي حكاية من حكى
أتتبّعُ الظّرفاءَ أكتـــــبُ عنــــهــم كيمــا أحدّثَ مــن أحـــبُّ فيضحكَا
يقول الفيلسوف “هيجل”: “الدّعابة هي ميل العقل والقلب إلى قول الحقائق بأسلوبٍ مرح”.
ويقول “الجاحظ”: “متى أُريدَ بالمزاح النّفعَ، وبالمضحكِ الشيء الذي جُعل له الضّحك، صار المزاحُ جدّاً، والضّحك وقاراً”.
هكذا هي العلاقة بين الجدّيّ والمضحك، تكاد تكون ملتبسة وإشكاليّة، فمثلاً لو كنتُ أنا موضع المقلَب الذي يُنفّذ، لغضبتُ، بينما لو كنتُ متفرّجاً عليه فسأجده مضحكاً وطريفاً، فالجِّدّ هو طبيعة الكائن المألوفة في الحياة، بينما الضّحك هو الطارئ.
كما يمكن أن تتحوّل المواقف التراجيديّة إلى كوميديّة والعكس أيضاً، فمسرحيّة “ريّا وسكينة”، المعروفة بمأساويّتها الشّديدة. مثلاً أدّيتْ كوميديّاً واستطاعت انتزاع ابتسامات كثيرة من ملامحنا الجديّة.
ومهما قيل بشأن الضحك، ومهما تطيّر منه الكثيرون حسب المأثور الشعبي القائل: “الله يجيرنا من هذا الضحك” فإنّه يبقى من الضرورات الصّحيّة “النفسيّة والجسديّة” للكائن يقول شاعر:
أفِدْ طبعَكَ المكدودَ بالهمّ راحةً بـــراحٍ وعلّلـــه بشــــيء مـن المزحِ
ولكن إذا أعطيتَه المزحَ فليكن بمقدار ما تُعطي الطّعامَ للملح
أوس أحمد أسعد