“وضع الطيران”!؟
د. نهلة عيسى
أخشى أننا بعد ثماني سنوات من الحرب, بدأنا نحارب يومنا “بالتطنيش”, أو ما أسميه وضع “الطيران”, أي أنك موجود وغير موجود في نفس الوقت, أو على رأي العظيمة فيروز “هون ومش هون”, ذلك أن معظم تفاصيل حياتنا, تجعلنا قريبي الشبه إلى حد كبير بالتليفون الجوال, إلا أننا لا نمتلك ميزاته, ولا حسن حظه, إذ على عكس الجوال لا نستطيع عندما يشقينا العقل, أو يهزمنا الحزن, أو يعيينا نق وتذمر الآخرين, أن نحتمي بعلمية وحيادية برمجتنا, التي لا تفهم الحزن, ولا تتفاعل مع الزهق, ولا يشقيها شيء, كما أننا لا نستطيع الادعاء أن بطاريتنا قد قاربت على النفاذ, لننسحب إلى قابس الصمت أو النسيان, حيث الأمس بكل ما فيه ليس جزءاً من اليوم, وحيث كل لحظة من الحياة, سلعة سريعة العطب, تموت بذكرياتها, فور انتهائها, ويموت معها الوجع!.
أصدقائي يضحكون عندما يتكاثف غضبي كالبخار على مرايا الروح, فأصرخ: ليتني آلة يتم فكها كل حين ومين للصيانة, حينها يمكن لي أن أرتدي آليتي قميصاً مضاداً للقرف, وأرتدي العبث مانعاً للسأم, وأربط اللامبالاة على طرف قلمي, فتنهض الحروف من عرجها, وتركض على السطور متحاملة على الوجع, ومتجاوزة قدرة أصابعي على اللحاق بها, لترسم على بياض الورق كلاماً ملوناً, شبيهاً بوجوه المهرجين, فيه كل الملامح, ويمكن أن يرضي الجميع, والأجمل أنه لا يكشف الملامح الحقيقة للوجه!!
على” وضع الطيران”يرابط حلمي, والجروح في القلب أشبه بالجريمة, وشهادة زور على الحرب, وهي تقتل, وتذبح, وتهدم وتحرق وتخرب أجمل ما فينا, وتمنع تحليق الفراشات والعصافير, وتجبرها على إخفاء أجنحتها, وقص مناقيرها, والتزام الصمت أو الموت, والوطن في البال مثل نقطة تحت علامة تعجب, يليها استفهام, وبعده انكسار, يحسد الجوال أنه آلة!.
وسط الحرب, والليل بهيم طويل, وإشارات الاستفهام تتربص بي, أمعن في التجوال داخل الجرح, مربعاً تلو مستطيل والكل في دائرة, أنتقل من الليل إلى الفجر, ومن الحيرة إلى التصميم, ومن التساؤل إلى اليقين: بأن هناك قراراً اتخذناه دون أن ندري جميعاً, بأن نلتزم وضع الطيران, حيث الفوارق بين الحي والمقدد, والثورة والمذبحة, والشجرة والمشنقة, وبين الموت ركوعاً, والركوع وعلى الكتف بندقية باتت مائعة وملتبسة وإشكالية, وحيث الحروف تصطك غيظاً, والسؤال حصار أمام هلامية الغد, وصمم الأذن عن سماع أغنية فيروزية في صباحي توسلاً لدفء من القلب, ويجبر الضوء على أن يغسل عن العين رماد الخيبات, ويعيدني طفلة صغيرة كنتها بالأمس, فقط بالأمس, وباتت اليوم حلمها أن تغادر العيش على “وضع الطيران”!؟.
هل تضحكون؟ ليتكم تضحكون, لأنسى وسط القهقهات, كيف صرنا نعوات في ركن من جريدة, تزدحم بقية صفحاتها بخيباتنا وخزي أيامنا, وكيف صار الوطن قرص جبنة رومية, كلما سددنا فيه ثقباً, نهشته من الخارج والداخل الوحوش الضارية, وأحدثت فيه ألف ثقب وثقب, ليصير القدمان نعشاً, وكل يوم جديد, أشبه بإعادة تمثيل الجريمة وشهادة زور, ودماء الأحبة تغطي الوجه, والقضاة متعجلون, ليس مهماً لديهم من الشاة ومن الذئب, المهم أن تبدو المحاكمة منطقية, فهل بعد ذلك تسألونني لماذا حلمي أن أكون آلية!؟. ولماذا أستيقظ كل صباح, لأرتدي وجهي المألوف, وأربط على حبل الفم ابتسامة ودودة غبية, وأرفع يدي بين المتر والمتر بالتحية, ثم أدخل مكتبي لأوقع أوراقاً نمطية, وقعت مثلها منذ عام, وسأوقع مثلها بعد عام, وستمضي عشرات الأعوام وغيري يجيب على ذات الاسئلة بنفس الأجوبة, ولا أحد يصدق, ثم قد يخرج واحد بعد ألف عام عن النمط, فنسمع في قبورنا توسله, وهو يعتذر: سامحوني, فقد أخطأت لم أكن أعرف أن الاجابة عن السؤال, هي ذات الاجابة من ألف عام, فنرد من قبورنا: ياغبي: في بلادنا, خير الإجابات, أن تضع نفسك على “وضع الطيران”!.