دراساتصحيفة البعث

حرب العمـــــــــلات.. نـــــــار بـــــــلا دخـــــــــان

باسل الشيخ محمد

ليست فكرة تخفيض الدول لقيمة عملاتها، من أجل توفير خدمات وسلع بأسعار تنافسية فكرة جديدة، إذ سعت اليابان –مثلاً- إلى تخفيض قيمة عملتها أمام سعر صرف الدولار من أجل الحصول على مزيد من القدرة التنافسية، الأمر الذي زاد من الاستثمارات واجتذاب رؤوس الأموال إلى اليابان التي أصبحت تكاليف الإنتاج فيها منخفضة، ولإيضاح الفكرة: فإن قيمة جهازي هاتف محمول من شركات يابانية تعادل قيمة جهاز واحد من صناعة أمريكية.

السبب الأساسي لتطبيق هذه السياسة هو موازنة قوة السوق المعتمدة على العرض والطلب، بحيث تصبح الحركة التجارية مرنة في حال وقع أي تباطؤ في السوق. يحدث أن تقابل هذه الخطوة بتدخل بعض المصارف لرفع أسعار عملات أخرى، ما قد ينجم عنه ركود عالمي، وهذا ما يُعرف بحرب العملات.

كان وزير المالية البرازيلي هو أول من استخدم هذا المصطلح في أيلول من العام 2010 عندما تحدث عن انزلاق المصارف العالمية في حرب عملات، قرّر الوزير وقتها شراء البرازيل لكميات هائلة من الذهب لكي يحافظ الريال البرازيلي على قيمته، وذلك بعد أن عانت العملة البرازيلية من التدفق الكبير لرأس المال القادم من الولايات المتحدة التي أتت لتستفيد من سرعة دوران المال في أسواق منخفضة التكاليف.

ولا بد من الإشارة إلى أن شكل حرب العملات قد تطوّر ليتجاوز الخفض الإجرائي لقيمة العملة الوطنية، حيث أمست هذه الحرب تتمّ عبر التلاعب بأسعار الفائدة التنافسية سعياً لاجتذاب مزيد من المستثمرين.

توجد دائماً في أي من نوعي حرب العملات نقلة الحصان الأمريكية المعهودة، وهي محاولة إجبار أي طرف صاعد اقتصادياً على تخفيض قيمة عملته أمام الدولار في الوقت الذي يحاول هذا الطرف فيه رفع سعر صرف عملته عالمياً. تبدو الحركة متكررة في هذا السياق، إذ تعمل السياسة النقدية على جعل الصادرات الوطنية أقل كلفة في الأسواق العالمية لتزداد تنافسيتها، فيكون ردّ الفعل عبارة عن محاولة تقليص القدرة التنافسية عن طريق التدخل في الأسواق والتدخل في العملات.

إنها بعبارة أخرى حرب اقتصادية باردة. وغالباً ما يُشار إلى الولايات المتحدة على أنها تتلاعب بأسعار صرف الدولار لتحقيق مصالح نقدية أمريكية، حتى لو أدى ذلك إلى خسائر في أسواق الدول الصديقة. ومن ذلك –على سبيل المثال- فك ارتباط الدولار بالذهب في سبعينيات القرن الماضي، وهو ما جعل قيمة الدولار قيمة أكبر من قيمته الحقيقية، شأنه في ذلك شأن الجنيه الإسترليني الذي يبدو أن بريطانيا تستعدّ لمجموعة من “النقلات” المقبلة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقد تفضي الإجراءات البريطانية إلى أضرار بدول الاتحاد الأوروبي نفسها، فمثلاً: هنالك تقارير تتحدث عن تصاعد قيمة الفرنك السويسري مقابل الدولار واليورو، تزامناً مع وجود عدة مؤشرات على إمكانية وقوع مشكلات في المستقبل القريب بسبب إضعاف الدولار الأمريكي للعملات الأخرى، وقد تضطر بعض المصارف المركزية في العالم –وليس سويسرا وحدها- إلى زيادة عرض العملات لتصبح فائدة العملة مقابل الفائدة المصرفية تساوي الصفر، وهكذا تضطر الدول إلى طباعة المزيد من النقود لمنع ارتفاع قيمة العملات الأجنبية بشكل تعجز فيه العملات المحلية عن الوفاء بالمتطلبات التجارية الوطنية.

وأمام هذه المخاطر، هدّدت بعض الدول مثل تايلند وبريطانيا والبرازيل وجنوب أفريقيا والهند وكوريا الجنوبية باللحاق بسباق تخفيض عشر صرف عملاتها لكي تنعش اقتصاداتها، بما يمكنها من توفير المزيد من القروض وحماية مصالح المصدّرين فيها، غير أن الخشية هي أن الاستقرار في الأسواق المالية العالمية قد يكون متقلباً، ولعلّ المزيد من نقلات اللاعبين في الطريق إلى المستهلكين والصناعيين على حدّ سواء.

وخارج نطاق تلك الدول يمكن رصد حرب العملات عبر التغيّرات الطارئة على أسعار العملات بصورة لا تفسير أو مقدمات، ويُشار إلى أن حرب العملات عادة ما تكون صامتة، إلا أن آثارها هي التي تتميّز بوقع مدوٍ على الدوام.

العملة العقوبة

أصبحت كلمة (عقوبات) مرتبطة بكلمة (دولار) والتي تشير بدورها إلى هيمنة الولايات المتحدة ليس فقط على قرارات حلفائها بل وعلى عملاتهم الوطنية. قبل ذلك وفي عام 1965 صاغ وزير المالية الفرنسي فاليري جيسكار ديستان اصطلاح “الامتياز الباهظ” والذي قصد منه أن الولايات المتحدة تحصل على قروض دائمة دون فائدة عليها مادامت الدول التي قدمت الديون تتعامل بالدولار، وما إن قرّرت الصين وروسيا وإيران التخلي عن الدولار حتى بدأت موجات العقوبات تطالُ تلك الدول. إلا أن الديون بحدّ ذاتها ليست درعاً واقياً من العقوبات الأمريكية، إذ تهاوت قيمة البيزو الأرجنتيني والبيزو الجنوب أفريقي بعد أن قامت تلك الدولتان بمراكمة كميات ضخمة من الدولار على مدى 30 عاماً، غير أن الديون المقومة بالدولار قفزت من 642 مليار دولار إلى 2,16 ملياراً خلال الفترة ما بين العام 1990 حتى 2017. آخر تقارير مصرف “التسويات الدولية” يشير إلى وصول الديون العالمية المقومة بالدولار إلى 11,5 تريليوناً، بحيث أصبح من المستحيل على أي دولة أن تسدّد ديونها للولايات المتحدة. ولعلّ هذا السيناريو ينتظر الدول الأوروبية في حال تمّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كأسلوب هيمنة على القارة العجوز.

هل يحاول حزب المحافظين البريطاني الخروج من مأزق المديونية الأمريكية، أم أن الحزب –نظراً لأن الارتباط مع الولايات المتحدة جزء من عقيدته- ينتظر حقبة جديدة يكون فيها شريكاً مع الولايات المتحدة في فرض سياسات ما؟ وإلا فعلى أي أساس يأتي تصريح الرئيس الفرنسي أن منطقة اليورو لا ترغب في أن تكون خصماً للدولار. حتى وإن لم تكن الإجابة واضحة، فإن المستقبل لحلفاء أمريكا وأعدائها على حدّ سواء لا يبدو وردي الطابع على ما يبدو.