روسيا تعيد صياغة المشهد في فنزويلا
د.رحيم هادي الشمخي
أكاديمي وكاتب عراقي
روسيا تعلن لمن يهمه الأمر إنها ستقف في صف فنزويلا في مواجهة الحرب الهمجية التي تشن عليها، إذ تستند هذه الأخيرة إلى نموذج الحرب المنخفضة التوتر التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد نيكاراغوا أيام حكم الجبهة (الساندينية) في ثمانينيات القرن الماضي، والتي أدت بعد نحو عشر سنوات، واستنزاف البلاد بشرياً ومادياً إلى سقوط الجبهة في الانتخابات عام 1990، ولاشك في أن افتقاد نيكاراغوا الدعم الدولي مع دخول حليفها السوفييتي آنذاك في مرحلة الموت السريري، قد سرع الانتصار الأمريكي.
قد تكون نقطة الضعف الرئيسة في استلهام مثل هذه الاستراتيجية اليوم هي تغير الظرف الدولي، وعودة روسيا إلى أداء دور بارز في أكثر من منطقة من العالم، نقطة أخرى مرتبطة بالأولى، هي أن هذه العودة تجري بالتحالف مع لاعبين إقليميين ودوليين وازنين تتقاطع أهدافهم مع أهدافها، هذا ما نشاهده اليوم، شراكة روسية مع أطراف محور المقاومة في مواجهة العدوان الأمريكي الذي تتعرض له المنطقة العربية، وهذا ما قد نشهده في فنزويلا، حيث تتقاطع المصالح الروسية والصينية في منع مسعى واشنطن لقلب نظامها الوطني، اختلفت الظروف جذرياً عن تلك السائدة في الثمانينيات، عندما لم يكن للاتحاد السوفييتي هذا النوع من الشراكات، إن لم نقل التحالفات، بل كانت علاقاته عدائية مع الصين وشديدة البرودة مع إيران، لقد باتت وثيقة الصلة بمواقف أطراف هذا التدويل وسياساتهم.
لقد دخلت موسكو من الباب العريض إلى ما لم تتوقف واشنطن يوماً في ظل إداراتها المتعاقبة، عن اعتباره حديقتها الخلفية، هذا التصور لأمريكا الوسطى والجنوبية بقي مهيمناً في أوساط النخب السياسية والعسكرية الأمريكية، مع أن قسماً كبيراً من بلدانها شهد تغييرات فعلية بعد وصول حكومات وطنية إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، ففي البرازيل، والأرجنتين وفنزويلا، وبوليفيا، والإكوادور، والأورغواي، اعتمدت التيارات اليسارية الوطنية التي انتصرت بالانتخاب سياسة مستقلة خاضعة لمصالحها الوطنية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي الداخليين، وعلى المستوى الخارجي مناقضة بدرجات متفاوتة إملاءات واشنطن، ولاشكّ في أن من بين أبرز العوامل التي جعلت هذا الأمر ممكناً، غرق الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط وحروبها، ما فتح نافذة فرض حقيقية أمام القوى الوطنية في البلدان المذكورة لمحاولة إنجاز التغيير المنشود منذ عقود من قبل شعوبها، ومما زاد من حنق الولايات المتحدة حيالها، شروعها في بناء شراكات اقتصادية وسياسية مع منافسيها الدوليين الصاعدين، وفي مقدمتهم الصين وروسيا، وهو ما تنظر إليه على أنه تحدٍّ استراتيجي في إحدى أكثر مناطق نفوذها أهمية.
الهجوم المضاد الأمريكي على الحكومات الوطنية في دول وسط القارة الأمريكية وجنوبها، بدأ منذ عهد إدارة باراك أوباما، إلا أنه انتقل إلى طور جديد مع إدارة ترامب التي ترى في استعادة السيطرة عليها أولوية استراتيجية، ولا يمكن فهم الحرب الحالية على فنزويلا خارج هذا السياق، كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع إرسال روسيا قوات عسكرية محدودة العدد حتى اللحظة إلى فنزويلا؟ إن موقع (سترانفور) الوثيق الصلة بالدوائر الأمنية والعسكرية الأمريكية يشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تقيم النتائج الطويلة الأمد لبناء روسيا موطىء قدم في الحوض الكاريبي، لأن ذلك يقوض أحد المرتكزات الرئيسة لعقيدة “مونرو”، ويجعل من الصعب على واشنطن أن تمنع قوى خارجية من التدخل في مجالها الجيوسياسي الحيوي، حتى اللحظة، ردع التهديد بالتدخل الأمريكي، وهنا نجد أن إمكانية تزايد الوجود الروسي على ضفاف الكاريبي يعيد المشهد في فنزويلا، أما واشنطن فإن رهانها حول النزاع الدائر في فنزويلا، هو قيام الجيش بالانقلاب على الرئيس الشرعي للبلاد، إذ إن التحركات الاحتجاجية التي باشرتها المعارضة والحرب الهمجية التي تتعرض لها كركاس، هدفها تأجيج الانقسامات الداخلية في المجتمع، واستنزاف البلاد لتشجيع عناصر عسكريين غير محسومي الولاء على إطاحة نظامها الوطني، كما تنظر الولايات المتحدة الأمريكية بحذر إلى بداية التموضع الروسي على أنه استمرار لسياسة التصدي لمساعي تغيير الأنظمة، وتعمل اليوم للحؤول دونها في فنزويلا، وإذا وقفت الصين بوضوح مع روسيا في فنزويلا، وهي لديها استثمارات بنحو 70 مليون دولار في هذا البلد، فسيزيد ذلك من صعوبة تحقيق واشنطن غاياتها هناك.