ثقافةصحيفة البعث

مناجاة علنية تستنطق أهم روائيي القرن العشرين 

 

الولوج إلى مملكة روائيين عظام مضى على رحيلهم سنوات، وإعادة استنطاقهم والسجال معهم حول قضايا كثيرة أثاروها في مؤلفاتهم، يتطلب ثقافة واسعة وفهما عميقا يحيط بكل جوانب حياة هؤلاء المبدعين الفكرية والأيديولوجية التي تخول من يخوض غمار هكذا مغامرة الارتقاء إلى سوية إبداعية تجاري المكانة التي وصل إليها أدباء قدموا أعمالا خالدة للإنسانية.

مع هذا تبقى فكرة مناجاة أمثال هؤلاء الأدباء  الكبار عبر حوار شامل وبلغة أدبية فكرية خلاقة، مبادرة تستحق التوقف عندها والإشارة إليها، ففي كتابها الصادر حديثا عن دار المدى تحت عنوان “مملكة الروائيين العظام” تسعى الكاتبة العراقية لطفية الدليمي، لخوض تجربة حوارية مع ثلاثة روائيين عالميين هامين هم اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، الألماني هرمان هسه، الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، تستخلص من تجربتهم دروسا وإلهاما يفيدها في مسيرتها الإبداعية.

تبدأ الدليمي حوارها مع كازانتزاكيس صاحب كتاب “الحديقة الصخرية” ومنه تسأل “يؤخذ عليك، أحيانا انك ترينا الظلام والقسوة والدم، لكي تعتنق النور، أو نفهم جوهر الضياء، فتقول: “إننا نجيء من هاوية مظلمة وننتهي إلى هاوية مظلمة، ونسمي الفاصل المضيء حياة، هل أنت مع نظرية العود الأبدي النيتشوية..؟

ومنه تصل إلى ثلاثة واجبات علينا القيام بها لنرتقي في الحياة ، الواجب الأول أن نتأمل العالم بهدوء، والثاني أن لانقبل الحدود وأن لا تستحوذ المظاهر علينا فنختنق، والواجب الثالث هو الأمل لعبور الهاوية، لأننا عندما ننسى الحدود نستطيع فعل المستحيلات.

وتحت عنوان “كازانتزاكي مع عظماء القرن التاسع عشر تولستوي ونيتشه ودوستويفسكي، يتناول كتاب “المعقول واللامعقول في الأدب الحديث” لكولن ويلسون، الذي يفرد فيه فصلا عن ترجمة كازانتزاكي لقصيدة الأوديسة إلى اليونانية الحديثة، التي أعاد كتابتها سبع مرات مابين 1924 و1938، فأذهلت النقاد.

كما تسأله عن عزلته في جزيرة إيجين ورسائله المتبادلة مع حبيبته ورفيقة دربه ايليني التي كانت تناضل من أجله وأجل خلاص اليونان من الاحتلال الفاشي والنازي. وتخوض في كل المؤثرات التي ساهمت في بلورة أدب صاحب روايتي زوربا اليوناني، والمسيح يصلب من جديد، وفلسفته في الحياة والعدالة والتسامح والحب بين البشر.

وفي مناجاة مع هرمان هسه، تسأل عن سيرته الذاتية وصلتها بحياة أبطاله وسيره في مؤلفات  “ذئب البراري، وميان، وتجوال، وتحت العجلة، ولعبة الكريات الزجاجية” وتجيب من خلال دراسة روايات الكاتب والبحث في تفاصيل حياته عبر مساجلة عميقة تستخلص منها أهم الأفكار العامة التي سعى هسه لإيصالها إلى القارئ .

تقول: “كيف لي أن أناجي “ذئب البراري” هذا الكائن البري الغريب وشديد الحياء، والذي يفتقد إلى الود والألفة؟، كيف أحادثه وهو منغمر في عزلة محكمة يبحث في أسرار الروح والسحر والموسيقى وانحلال العالم، ويرنو إلى مملكة الروح السرمدية؟.

لابد أن أستعير منه بعض القدرات السحرية التي طالما اختزن أسرارها من مخطوطات جده وتعاطى معها في أوقات مختلفة عندما كان الواقع يحاصر روحه المرهقة.

وفي سجالها مع غابرييل غارسيا ماركيز تصف الكاتبة صاحب مئة عام من العزلة، والحب في زمن الكوليرا، بأنه صانع أعاجيب لم يعرف القرن العشرين من يضاهيه، فقد مازج بين موروث الشرق والغرب، وابتدع وصفة جديدة للواقعية السحرية تخطت سحرية خوان رولفو الذي يعد المؤسس الأول لها في رواية “بيدرو بارام”. وفيها تسجل الكاتبة اعتراف ماركيز بأن “مائة عام من العزلة كانت رواية دعابة، ونجاحها دمر حياتي تقريبا، واضطرب كل شي بعد نشرها، الشهرة تؤدي إلى اضطراب إحساسك بالواقع – مثلما تفعل السلطة بالمرء- وتواصل تهديدك لحياتك الخاصة، ومهنتك. لم يكن نجاح مائة عام من العزلة عادلا، فخريف البطريرك هي انجازي الأدبي الأهم.

وفي هذه المناجاة تسأل الكاتبة عن علاقة ماركيز بالسينما، ومهمتها في عالمنا المعاصر، ودور الثقافة في مواجهة الساسة المستبدين، وعن مشاريعه الخاصة للحركة السينمائية اللاتينية، ومسعاه لتأسيس المدرسة العالمية في هافانا التي قدم لها أموال جائزة نوبل التي حصل عليها عام 1982.

تقول: “غادرت مدى الرؤية ووجدتنا نجلس في مقهى على رصيف مدينة مدارية ربما هي مدينة قرطاجنة الساحلية، وكان الحر مهلكا، وقد فاحت روائح الثمار العفنة والتالفة من دكاكين الباعة، قلت لي إنك تميز رائحة الجوافة بين جميع الثمار يلقونها في زوايا الشارع، وقلت أنها فاكهة رمزية تمثل رائحة المدن الكاريبية الحارة، ونساء الحانات والبحارة الثملين والخمرة الرديئة وأحلام القراصنة ووتيرة الغناء المتسارعة…”

هكذا تقتحم الدليمي أجواء ماركيز وعالمه الروائي من خلال البيئة التي تعرف عليها القارئ من خلال أعماله لإعادة صياغة فهم جديد له.

لطيفة الدليمي: كاتبة عراقية لها مؤلفات متنوعة في الرواية والقصة والمسرح والدراما التلفزيونية، قدمت دراسات عديدة في الأدب والقضايا الاجتماعية التي تخص المرأة على وجه التحديد.

آصف إبراهيم