الحضارة العربية.. الأصول والتأسيس
لقد نشر العرب معارفهم وقيمهم الحضارية التي بددت بأضوائها ظلمات الجهل والجمود، وتغيرت أحوال البلدان التي دخلوها تغيراً كبيراً لعل أبرز أمثلته الأندلس. جعل ذلك بعض المنصفين من أبناء الغرب يعدّون إخفاق دخول العرب لبعض البلاد بمثابة كوارث حلت بها، ولنقرأ في ذلك شهادة “كلود فارير” أستاذ اللغات الشرقية في الكوليج دوفرانس يقول بوضوح: “حلت بالإنسانية في القرن الثامن الميلادي كارثة لعلها أسوأ ماشهدته القرون الوسطى، تخبّط من جرائها العالم الغربي سبعة قرون أو ثمانية في الهمجية قبل ظهور النهضة، وما تلك الكارثة إلا ذلك النصر الهائل الذي أحرزته الجماعات الجرمانية بقيادة شارل مارتل على فرق العرب والبربر، ففي مثل ذلك اليوم المشؤوم تقهقرت الحضارة ثمانمائة عام.
“الحضارة العربية، الأصول والتأسيس” كتاب صادر عن وزارة التعليم العالي –جامعة دمشق- الأدب العلمي للدكتور عمار محمد النهار والذي جاء في مقدمته: انطلقت الحضارة العربية انطلاقتها الكبيرة ووصلت إلى أرقى المواقع، وكان طبيعياً في المرحلة الأولى من هذه الانطلاقة -شأن كل حضارة وليدة- أن تستوعب إنجازات الآخرين في العلم والفكر، ثم تبني عليها، وكانت أبرز الحضارات في عصر بدايات الحضارة العربية وهي الحضارة البيزنطية ذات الأصول الإغريقية والحضارات الفارسية والهندية والصينية قد تلقت منها الحضارة العربية الكثير من المؤثرات المدنية “أي المؤثرات المتعلقة بالتمدن والفنون وأساليب المعيشة” والكثير من أساليب إدارة الدولة وتدوين الدواوين وبعض المؤثرات الأدبية، وتلقت الحضارة العربية من الحضارة الهندية على الأخص مؤثرات علمية هامة في الرياضيات والفلك وكانت الحضارة الصينية نظراً لبعدها عن قلب الدولة العربية وعواصمها الكبرى –دمشق وبغداد والقاهرة- أقل تأثيراً في الحضارة العربية ومع ذلك فقد تلقت منها هذه الأخيرة مؤثراً واحداً فائق الأهمية هو “صناعة الورق”. فواجه العرب الأوائل مختلف الثقافات والحضارات من خلال المراكز العلمية المنتشرة التي كانت تعنى بالكتب والترجمات لعلوم الأوائل، فترجموا الكثير من الثقافات اليونانية والفارسية والهندية والصينية إلى لغتهم. كانت الثقافة الإغريقية سائدة في بلاد اليونان حين خضعت للاحتلال العسكري الروماني المنطلق من إيطالية، وظلت هي السائدة في القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية “شرق أوروبا وآسيا الصغرى والشام ومصر” دون أن تتمكن الثقافة الرومانية اللاتينية –ثقافة المحتل- من قهرها لأن الثقافة الإغريقية واللغة اليونانية كانتا أقوى وأعمق جذوراً من الثقافة الرومانية واللغة اللاتينية. وحين انقسمت الإمبراطورية الرومانية عام 395م إلى قسميها: الغربي (الذي عرف باسم “الإمبراطورية الرومانية الغربية” وضم إيطاليا وغرب أوروبا) والشرقي الذي عرف باسم “الإمبراطورية الرومانية الشرقية” أو “الإمبراطورية البيزنطية” ترسخت الثقافة الإغريقية واللغة اليونانية في القسم الأخير، وظهر بعض العناية بالتراث الإغريقي المتمثل في المخطوطات والبرديات التي أثمرتها الحضارة الإغريقية القديمة ومدرسة الإسكندرية.
ولما كان التراث الإغريقي هو أرقى تراث حضاري عرفه العرب، وأقرب تراث الحضارات السابقة قاطبة إلى العقل العربي، فقد اتجه العرب خصوصاً في بدايات الحضارة العربية إلى النهل منه بقدر أكبر كثيراً من أي تراث حضاري آخر، وركزت حركة الترجمة التي استهلّها خالد بن يزيد في العصر الأموي، وبلغت أوجها في عهد الرشيد والمأمون في العصر العباسي على ترجمة تراث الحضارة الإغريقية في الطب والعلوم الطبيعية والفلسفة. ومع توالي عمليات الترجمة واستمرار الدراسة، تحول العرب إلى نقد ما يترجمون وبدؤوا في المزاوجة بين تراث الحضارات المختلفة خصوصاً الإغريقية والهندية، ثم انتقلوا للبحث عن المعرفة بأنفسهم وقادهم البحث إلى التجريب وساعدهم على ذلك التقدم الكبير الذي حققوه في العلوم الرياضية كما ساعدهم عليه كثيراً ذلك الفكر العلمي المعروف في مجموعه باسم “المنهج العلمي” بالاستدلال العقلي أو بالتجريب. وبذلك اكتملت للعرب كل المقومات اللازمة لبدء حضارتهم في كل أفرع العلم والفكر بما في ذلك الفلسفة والمنطق اللذين تميز فيهما الإغريق كثيراً.
تبرز المقدرة الاستيعابية للحضارة العربية من خلال مقدرة الانتشار، ويكفي مثالاً واحداً ندلل به على ذلك المثال المتعلق باللغة العربية التي سرعان ما انتشرت عند كل الشعوب آنذاك وصارت اللغة العالمية ولغة العلم، ولغة الإدارات والمحاكمات والدبلوماسية وسرعان ما صارت أيضاً لغة العلاقات الاجتماعية والتجارة والأدب.أصبحت اللغة العربية أكثر قدرة من اللغات المحلية على تلبية الضرورات والمتطلبات، وظلت بلا منازع بين جميع لغات البلدان المفتوحة، وسرعان ما تبين أن غناها ودقتها كانا يسمحان لها بالتعبير عن كل دقائق الفكر، وصارت هذه اللغة الشعرية التي كانت قد فتنت البدو لغة البلاطات والمجامع والعلماء.
على امتداد قرون عدة، وبصرف النظر عن أعراقهم وضع العلماء كل مؤلفاتهم بالعربية، وأسهم ذلك في انتشار التعليم الذي كان مجانياً، كما أن الترجمات العربية للعلم والفلسفة فيما يسمى الشرقين الأدنى والأوسط معاً، أسهمت في الانتشار الكبير للغة العربية، وهكذا احتلت رسالة أرسطو في المنطق التي كانت تضم في طبعتها العربية البيان والشعر “الريطوريقا والبوتيقا” كما احتلت رسالة “إيساغوجي” لفرفوريوس مكانتها إلى جانب النحو العربي بوصفها ركيزة للإنسانيات العربية. والنتيجة الكبرى هي نفاذ العربية إلى اللغات الغربية التي لا تزال مفعمة بمصطلحات من أصل عربي، لذلك قيل إن تاريخ الكتابة واللغة العربية لم يكن شيئاً آخر سوى تاريخ الحضارة العربية.
وإن احترم علماء الحضارة العربية من سبقهم، ونسبوا الأعمال والإبداعات لأصحابها، وتعلموا منها ونقدوها وصححوها وأضافوا إليها أيضاً إدراكاً منهم لمفهوم العلوم، فإن العلماء اللاتين اتخذوا أسلوباً مختلفاً في أخذ العلوم عن الحضارة العربية فمع أنهم كانوا يجاهرون بعدائهم وكراهيتهم للعرب والمسلمين إلا أنهم أخذوا عنهم الكثير من العلوم وفي حالات كثيرة ومشهودة أخذوها دون نسبتها لأصحابها.
جمان بركات