تحقيقاتصحيفة البعث

تجذب الناس أسواق الخضار الجاهزة .. بدأت بتجربة فردية وأصبحت مقصداً شعبياً

 

بدأت ظاهرة سوق التنابل، كما يحلو للكثيرين تسميته، منذ حوالي ثلاثة عقود، وتعود في أساسيتها إلى تاجر خضار من منطقة المزة، حيث بدأ بيع الخضار الجاهزة للطهو مثل الكوسا، والباذنجان المحفورين لطبخ “المحاشي”، والخضار المقطعة، والبقدونس المفروم، والخضار المجففة للمونة مثل الملوخية، والبامياء، وتطورت هذه الحرفة لتشمل الخضار الطازجة المفرزة، وهذا التطور كله لمواكبة السرعة، وانتقلت هذه الظاهرة من منشئها في منطقة الشعلان وسط دمشق إلى عدة أماكن مثل سوق الشيخ سعد، وسوق الشيخ محي الدين، وسوق باب سريجة، بالإضافة إلى العديد من متاجر الخضار في المناطق الراقية التي اعتمدت على بيع هذه المنتجات بشكل كبير، خصوصاً في الأحياء الراقية.

كسالى أم مضطرون؟
حول الإقبال على هذه الظاهرة تعددت آراء الشارع، وكل يرى أن وجهة نظره هي الصحيحة، وكما يقول أحد الباعة “أبو الخير مطر” بأن زبائن السوق لم يعودوا حكراً على الطبقة المترفة، بل تعدوها إلى كافة الفئات الاجتماعية، فأصبح بيع الخضار الجاهزة للطبخ صناعة مستقلة بحد ذاتها، وأصبح سوقها مفتوحاً لكل راغب ومجتهد، فالفئات الغنية وجدت بالسوق مصدراً للراحة، بينما فئة الموظفين وجدت فيه ملاذاً للتأخير في إعداد الطعام نتيجة فترة الدوام الطويلة، ووجوب تحضير الطعام في أوقات مناسبة للعائلة، بينما استفادت فئة أخرى من السوق الذي ساهم بشكل كبير في توفير الوقت، وتوفير المال، والتخلص من البقية غير الضرورية من الخضار، وتجهيز الخضار بشكلها الأخير المعد للطهو، وهم فئات الطلاب والعازبين، ورأت هذه الفئة أن الأسعار تتناسب مع القيمة الحقيقية للخضار، وبالنتيجة فإن الزبون يمتلك الحرية بالشراء بين الجاهز، وما يحتاج إلى تحضير.

تطور
لم يتوقع من بدأ هذه الفكرة بأن انتشارها سيفوق خياله لأنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من أسواق الخضار في كافة المحافظات السورية، رغم اقتصارها على بعض الأماكن التي تسكنها الطبقات الغنية، لكن انتشارها ساهم في أخذ أشكال واسعة، ورغم أن السوق يلفت نظر الكثير من المارة، ويثير الابتسام والسخرية في حالات كثيرة، ولا يتمكن إلا الميسورون من شراء بضاعة “سوق التنابل” بسبب ارتفاع أسعارها، كما يبدو بالشكل العام، إلا أن الحقيقة تجافي الواقع، لأنه بحساب كلفة بسيط، حسب السيدة “أم يزن”، وهي من رواد السوق الدائمين، نجد أن النساء من “زبائن السوق” لم يعدن يكتفين بشراء الخضار المفرومة والجاهزة، بل بدأن يطلبنها مطبوخة، وبالتالي فإن تجارة هذا السوق ساهمت في خلق فرص عمل من خلال تعاقد بعض أصحاب المحلات مع نساء يجدن الطبخ بشكل ممتاز ليطبخن كافة أنواع المأكولات، وإرسالها لمن طلبها، وهن غالباً من طبقة موظفات القطاع الخاص، والسيدات الثريات اللواتي وجدن راحتهن بهذه الطريقة، خصوصاً أن أغلبهن لا يجدن الطبخ، وهنا تختلف الكلفة بحسب الطعام المطلوب، وترتفع الأسعار بحسب كل صنف وما يحتويه.

ورشات
يرى بائع خضار في السوق “أبو علي الطرابيشي” بأنه منذ بداية العمل بسوق التنابل، وتحضير الخضار الجاهزة للطبخ، بدأت هذه الصناعة بالتطور، وتكونت شريحة ليست صغيرة تعمل في هذا المجال حتى غدت صناعة قائمة بحد ذاتها، وهنا يجب الإضاءة على عدة نقاط، منها أن تحضير هذه الخضار بكافة أشكالها يعود بالنفع المادي على من يحضرها، وعلى الباعة بالسوق، وبدأت تتهافت الكثير من السيدات على هذا العمل، وأصبحن يعملن ضمن ورشات متخصصة في إعداد الخضار حسب مواسمها، يقع الكثير منها في منطقة “كفرسوسة”، وأسعارها بعد تحضيرها تحمل هوامش ربح بسيطة، وتعتمد على بعض أنواع الخضار المستوردة في غير مواسمها، وفي خضم الأزمة السورية التي تعيشها البلاد منذ نحو ثماني سنوات، دفعت الحاجة الكثير من العائلات للتوجه إلى هذا بحثاً عن فرصة عمل من خلال إعداد الخضار.

غلاء
في الفترة الأخيرة، ونتيجة الظروف القاسية التي مرت بسورية، وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وقلة الطلب على منتجات سوق التنابل، ارتفعت أسعار الخضار، وتكاليف التحضير، ما أدى إلى إطلاق لقب “سوق الغلاونجية” على السوق، ويرى “أبو الخير” أن هذه الأسعار جاءت نتيجة تقديم خدمات مميزة لرواد السوق، وهذه الخدمات تحتاج لتكاليف مرتفعة، خصوصاً بعد أن قلّت ورشات التحضير نتيجة التهجير الذي حصل في ضواحي دمشق، حيث بدأ الاعتماد على من بقي لتوفير خدمات التحضير، وأصبحت هناك تكاليف نقل وغيرها من سوق الهال إلى الورشات، ومنها إلى السوق، وبالتالي فإن تكلفة تحضير هذه الخضار مرتفعة ما بين دفع أجور للنساء الفقيرات في الورش، وأجور النقل، والتغليف، وغيرها، وهذه كلها أدت إلى رفع الأسعار بشكلها الحالي.

من الآخر
على الرغم من الظروف الصعبة التي يعيشها السوريون، لايزال سوق التنابل أينما وجد حاضراً بقوة على موائد الأغنياء، وطبقة الموظفات، وبعض طبقات المجتمع المختلفة، وقد بدأت بوادر انتقاله خارج حدود الوطن مع من هاجروا بالظهور في مختلف الدول انطلاقاً من ذاكرة جميلة، ومهنة جديدة في هذه الدول، وصناعة يتم الاعتماد عليها في الحياة الجديدة.

مرهف هرموش