ذكريات عابرة
يحتوي مربى توت العليق على نسبة عالية من اللزوجة والحلاوة والحموضة، لذلك فإن أمر تقديمه للسيد عزيز على مائدة الفطور سيخرب علي صباحي بكل تأكيد، لكني سأجرب هذه المرة وأعتمد على مزاجية عزيز، زوجتي أعدته خصيصا من أجود الثمار.
عند تناوله أول لقمة، لاحظت جيدا طريقة مضغه وسلوكيته على المائدة، كان الأمر حسنا، ثم مد يده مرة أخرى وتناول لقمة ثانية مع الزبدة والتفت إلي وأنا بمحاذاة المائدة قائلا:
-انظر يا بهجت.. أتعلم أن التوت هذا يشبه امرأة أحببتها في صباي.
-لا أبدا.. أقسم أنني لا أعلم هذه الأمور يا سيدي.
-ضحك.. نعم.. نعم، لا تهتم، ولكنك أرسلت إلى قلبي البهجة عندما اخترت هذا النوع من المربيات.. نعم يا بهجت كنت أقول دائما أن تلك الفتاة لا تشبه شيئا، ليس لها امرأة مماثلة، فقررت البحث عن أي شيء يشبهها، إلى أن استقر رأيي على مربى توت العليق.
-انظر معي جيدا.. أليس هذا المربى حلو المذاق، إنه كذلك.
-هذه الحموضة في المربى قد تكون شاذة في أنواع أخرى، لكن ما يضفي اللذة والتميز في هذه المربى هو نكهة الحمض هذه.. كذلك كانت فتاتي يا بهجت ثور هائج ينام في بطن حمل، تلك الفتاة كانت عبارة عن خليط من النقائض والأحجيات صعبة الحل، وكأنها ملكة نحل وعلى البطل أن يحل اللغز ليظفر، وهي تعلم تماما أن لا حل بالمطلق، وتأكيدا لكلامي هذا توفيت بحادث سير على الطريق العام وسط العاصمة وهي في طريق عودتها من مركز المعالجة النفسية المجاني.
-نعم يا بهجت لقد توفيت تلك المجنونة وحيدة تماما دون أي مراسم، وأنا تزوجت وأنجبت طفلة أسميتها “رحمة” على اسمها، أتعلم ذلك؟ سألني.
– لا.. لم أكن أعلم ذلك يا سيدي.
أكمل فطوره مطلقا عينيه عبر النافذة وأنا قررت أن أشكر زوجتي على هذا الصنيع العجيب، لربما يخطر في بالها أن تصنع دجاجا محشيا بالتمر والتفاح، فقد يظهر أمر آخر مع صاحبنا هذا.
وفي سياق الحديث حاولت العجوز صرفه عن الباب بأي وسيلة، رد بعينيه الجائعتين ورفض في داخله ذلك الطرد المهذب بعد أن أفرغت نصف ثلاجتها عله يرحل ببعض الطعام، لكنه في نهاية المطاف حمل الكيس معه ومشى بعيدا عن باب دارها باتجاه السوق القديم وأغلقت هي هذا الباب الموصد منذ أربعين عاما.
منذ أربعين عاما أوصد الباب مرات عدة أمام رجالات اعتبروا في ذلك الوقت من المتعلمين وأصحاب النفوذ والجاه.. عقدة شهيرة لم تحل بعد ولازالت أجمل امرأة في التاريخ برغم الصدأ المنتشر على وجهها ومفاصلها المخلوعة.
هذا العجوز يريد أن يغتصبني حتما.. لعنة الله عليه وعلى أمثاله من الفقراء، يريدون كل شيء مجانا.. لا، لا، لا أبدا لست ممن يهوون ممارسة الحب مع هؤلاء المتسخين، أنا أتمتع بلطف قل مثيله، ولياقة لا حدود لها.. أنا شهيرة سليلة آل مرميري لا اقبل بأقل من جنرال أو عالم فلك.
حدثت نفسها مطولا هكذا وصدقت كل كلمة قالتها عن نفسها، إلى درجة أنها طردت ذلك الشحاذ بطريقة مبتكرة حيث اتصلت بالشرطة فور وصوله وأقنعتهم أنه يريد السرقة وأشياء أخرى تخجل من ذكرها، لكن الشرطي فهم قصدها ووقع عن كرسيه من شدة الضحك، لكنه ولسوء حظها كان بغاية الأناقة واللمعان، أتى كعريس هذه المرة، جاء طالبا القرب من شهيرة ابنة السبعين عاما، ولكنه قضى تلك الليلة في المخفر.
لا عليك يا شهيرة.. خذي زمام المبادرة وارحلي عن هذه المدينة المشؤومة، إن طالعك لهذا العام مشجع جدا، فلا تبخلي على نفسك بفرصة ولو أخيرة- قالت لنفسها.
وبالفعل رحلت شهيرة عن المدينة دون أن تترك خلفها أي شيء يذكر، حتى أن منزلها بيع بسعر بخس بداعي السفر.. هكذا كتبت على الباب ظنا منها أن ذلك سيعظم من قيمة المنزل، ويعطي صاحبته لمسة أبهة.
ماتت شهيرة بعد شهر من رحيلها وأعيد جثمانها إلى الحي، حيث تلقفتها بعض الجارات وقمن بغسلها وإزالة الماكياج عن وجهها حيث استغرق ذلك أكثر من ساعة ونصف، إحدى النسوة سخرت منها على طريقتها: “بحضي لو كنتي عايشة كنتي قلتيلنا انك متي بسكتة قلبية متل الأكابر”.
دفنت شهيرة قبل مغيب الشمس ومر الشحاذ من هناك تلك الليلة.. استوقفه القبر لبرهة استغلها بلف سيجارة بلدية وما يستتبع ذلك من بصق خفيف لإكمال اللفافة.. ثم مشى باتجاه السوق القديم مرة أخرى باحثا عن أي صبية قديمة قد ترضى به.
المثنى علوش