إدلب.. في السياق الأكبر؟!
لا يمكن قراءة الاستنفار الكبير، عسكرياً وسياسياً، الذي وسم “بالتوالي” حركة كل من أنقرة وواشنطن حين بدأت معركة إدلب، بعيداً عن الخوف من خسارتها، وبالتالي انكشاف “حدود القوة” لهذين الفاعلين اللذين حكما المنطقة المذكورة طويلاً خلف قناع متمثّل بـ”جبهة النصرة” وشقيقاتها، وما يعنيه ذلك من اتساع قدرتهما على فرض ما تريانه معادلات مهمة في الحرب على سورية.
والحال فإن نظرية “حدود القوة” هي الأكثر صلاحية لتفسير أحداث كبرى تمر بها منطقتنا هذه الأيام، منها مثلاً غرق شروط “بومبيو” الـ”12″ لرفع العقوبات عن إيران مع أول احتكاك غير مباشر في مياه الخليج، التي أطفأت أيضاً – بقوة الحقائق الباردة لهذه “الحدود” – النيران الكلامية التي اندلعت من بيانات “قمم مكة” الثلاث التي كانت تطمح لتكون، بحسب الداعين إليها، الشرارة الأولى لبدء “غزوة بلاد فارس”، كما يستبطن بعض العقل القبلي الماضوي، والنظرية ذاتها هي من تفسّر أيضاً حراك واشنطن باتجاه موسكو للبحث عن حلّ للأزمة في سورية، وهي، أيضاً وأيضاً، من تفسّر وصول أردوغان، بعد تحميل روسيا له رسمياً مسؤولية الإرهاب في إدلب، وقرب انتهاء المهلة الزمنية الأمريكية لمصير صفقة “إس400″، إلى لحظة الحقيقة بعد سنين من اللعب “الناجح”، بصورة أو بأخرى، على حبال ثلاث، روسية وأمريكية وإرهابية، في وقت واحد، وهي أيضاً، وللمرّة الرابعة، من تفسّر بشائر تحوّل “صفقة القرن” إلى صفعة القرن على وجوه من أطلقها ومن دعمها بالبترودولار الأسود أو بالموقف السياسي الأكثر سواداً منه.
والأمر، فإن الجميع – صنّاع القرار الفعليين على الأقل – يعرف أن الوقائع الأربع السابقة متشابكة بصورة عضوية لا يمكن فكاكها، وبالتالي فإن قدر كل منها على حدة مرتبط طرداً بالنجاح والفشل في البقية، ومن هنا نفهم أن تتجاوز رمزية المعارك الدائرة على حدود “إدلب” دلالاتها المفصلية المحلية المتمثّلة في تحديد وجهة سير القضية الوطنية السورية في المرحلة المقبلة، إلى دلالات إقليمية ودولية في الصراع الدائر في المنطقة وعليها خدمة للصراع الأكبر الدائر على شكل النظام العالمي الجديد الذي سيحكم العالم للفترة القريبة المنظورة على أقل تقدير.
فـ”إدلب” ولأسباب عدة متشابكة، يعود بعضها إلى موقعها الجغرافي الحدودي، ويتعلّق بعضها الآخر بطبيعة ونوعية القوة المسيطرة عليها فعلياً، والتي ارتكز عليها وفيها، خلال الفترة الماضية، الرهان الحقيقي لإسقاط الدولة السورية، وإلى طبيعية ونوعية القوى المتدخّلة في الحرب السورية ككل، دفعت الجميع إلى نزع أقنعتهم على حدودها مع بدء تحرّك الجيش السوري نحوها، فدخل أردوغان الحرب رسمياً، بسلاحه وأتباعه بتسمياتهم “الوطنية” المخادعة، إلى جانب “جبهة النصرة” منعاً لخسارة الإمارة الأهم لـ”الباب العالي” في الشمال السوري، ورسمت واشنطن خطوط تماس حمراء لحماية الاستثمار/الإمارة ذاتها، أضافتها إلى الخطوط الحمراء التي رسمتها سابقاً حول الحل السياسي العتيد، والمتمثّلة بمنع المشاركة في إعادة الإعمار بالتوازي مع منع عودة المهجّرين السوريين قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، “فهناك إصرار أمريكي غربي خليجي على عدم عودة النازحين السوريين قبل الانتخابات”، لكن “حدود القوة” هي من أعاد، عبر إدلب، الحرارة إلى خطوط الحوار الروسي الأمريكي، والتي يقال إن محطته المقبلة ستكون في “القدس” المحتلة مع ما يكتنزه ذلك من إشارات ودلائل ومخاوف وخبايا وخفايا عدة، تحتاج إلى تطمينات لم يكن الجانب الأمريكي يحفل بها في المرحلة الماضية التي كان عنوانها التيه بـ”فجور القوة”، وليس الاعتراف الواقعي بحدودها.
إذاً، هو قدر “إدلب” أن تثبت، مع بقية المواقع المرتبطة، بها حقيقة “نظرية حدود القوة” التي لم، ولا ولن، يفهمها الساسة الصغار، في المنطقة والعالم، الذين ظنوا أنه يمكن لهم استغلال ما بعد 2011 لرسم خارطة جديدة للمنطقة، فيما سيرورة الفشل المتلاحق، واللاحق بهم، من قصة الناتو العربي وقبله التحالف الإسلامي والعربي وصولاً إلى فشل قادم في صفقة القرن وإدلب.. وغيرها، تبيّن أن للقوة حدوداً لا يقود تجاوزها إلا إلى الهاوية.
أحمد حسن