في الميدان
عبد الكريم النّاعم
في الهزّات الكبرى المصيريّة، كالتي تمرّ بها منطقتنا، كثيرا ما يتوقّف العقل المُدقِّق، ويُثير العديد من الأسئلة، حتى وإنْ بدا بعضها عصيّا على الجواب، أو أنّ جوابه مؤجَّل، أو موقوف لأمر ما.
الأزمات الكبرى تتكشّف عن مناطق مُظلمة، بعضها كان عاتماً لدرجة تُشبه الغياب، وبعضها الآخر كان يتلطّى خلف سواتر متعدّدة، متخفّية، بخشية حيناً، وبخبث حينا آخر، أو تُحصّن نفسها بالتسلّل إلى المواقع التي تشكّل لها حماية ما.
أعتقد، كآخرين، أنّ لأية أزمة أسباب متعدّدة، ومتشعّبة، اقتصاديّة، وسياسيّة، وأيديولوجية، بيد أنّ في مقدّمة ذلك هو ضعف القيمة الأخلاقيّة، في التعامل اليومي، وفي النظرة العامّة، والضعف الأخلاقي كان سببا في تدمير إمبراطوريات كبرى مرّت في التاريخ، كما أنّ الرقيّ الأخلاقي، بمعناه العام، لا بمعنى يختزله مذهب أو تديّن ضيّق، يكون سبباً في تهيئة الأسباب العميقة لنهوض شامل، ولعلّ شيئا من هذا، في عمقه، في بعض المجتمعات الأوروبيّة المتقدّمة أخلاقيا هو الذي يحفظ لها استمراريتها، ويمهّد لإنجازاتها التي يبهرنا بعضها.
نحن في هذه المنطقة، الغالب علينا، أنّنا بنسبة ما، نُلقَّن بعض المبادئ الأخلاقيّة تلقيناً، وهو في جوهره، وفي نُشدانه راق، وجذريّ، غير أنّ ما يفصلنا عن تجسيده ما يغلب علينا من مُباهاة لفظيّة، وتنافح موروثيّ، فنقول شيئا، ونفعل شيئا آخر، ولا يتردّد إنسان فاسد، مثلا، أن يصعد إلى منبر للخطابة ليتحدّث عن الأخلاق، والأمانة والوطنيّة!!، فيلوّث الوجدان العام، ويدفع به نحو مناطق اليأس.
أنا أعلم أنّ مثل هذا الكلام قد يبدو ثقيلا على مزاج البعض، ففي كلّ نافذةِ قولٍ إشادة بالأخلاق، وطلب لها، وحضّ عليها، وأرى أنْ لابدّ من القول وإعادته في هذا المجال، تماماً كما نكرّر تناول الدواء الذي لابدّ منه، فالحَبْل، نتيجة احتكاكه بخرزة الجبّ، والتي هي من البازلت، هذا الحبل بتكراره يحفر مجرى له في صلابة تلك الخرْزة.
إنّ مثل هذا الجهد لا تستطيع الكتلة الاجتماعيّة إنجازه بصورته الأبهى، لفقدان الأدوات، وضيق مجال التأثير، بل لابدّ أن يكون العمل مشتركا بين فاعليات المجتمع والدولة، ومراجعة ما تمّ إنجازه، وإلاّ أخذتْنا الطّوفة فيما تأخذ.
لاشكّ أنّنا ورثنا من مجتمعاتنا صفات إيجابيّة مثّلها بعض الناس سلوكاً، أقول هذا على الرغم ممّا في تاريخنا من نقاط عاتمة، ككل تواريخ المجتمعات الأخرى، بيد أنّ ما ورثناه أثبت أنّه لم يستطع الوقوف في وجه السيول الدّاهمة، والتي جاءتنا على شكلّ تفجّرات داخليّة بالغة الألم، وإنْ لم تكن مفاجئة بالكليّة، فقد تنبّه البعض إلى الظواهر التي كانت تمهّد لإشعال الحريق، غير أنّ المذهل فيها أنّ بعض مَن كانوا في مواقع فكريّة قد خلعوا كلّ ما يسترهم وذهبوا إلى حدود التماهي مع الرجعيّة السوداء، بل وكان بعضهم أحصنة للمخابرات الغربيّة المتصهينة.
تناقلت صفحات التواصل الاجتماعي خبرا مفاده أنّ أحد المهاجرين السوريّين، في بلد أوروبّي، وجد مبلغا كبيرا من المال، وهو في حالة سيّئة ماليا، فأخذ المبلغ وسلّمه لشرطة البلد، البعض أراد أن يجعل من الحادثة شاهداً على (الدّين) الذي ينتمي إليه، البعض الآخر جنح إلى أنّ أخلاق البلاد التي هو فيها قد جرّته إلى ذلك، وأيّا تكن التفسيرات فإنّ أمانة كهذه قمينة بالمزيد من التقدير والاحترام، وأنا أرجّح أنّها مسألة أخلاقيّة شخصيّة، والمعوَّل عليه أن تصبح سلوكا في موطنه الذي جاء منه، وعلى جميع مستويات الأمانة.
إنّ الهزات الكبرى تجرّ وراءها الكثير من الكوارث، كما أنّ النهوض السليم يستنهض الكثير من الطاقات الايجابيّة البنّاءة التي كانت مغيّبَة بفعل قوى شيطانية متسلّطة، وما أحوجنا لتجذير القيم الأخلاقيّة المؤسّسة للبناء.
aaalnaem@gmail.com