“نوكيا”.. عن الموت المؤجل غرقا
سأتوقف بداية عند العنوان بعيداً عن التعريفات والمصطلحات النقدية الأكاديمية التي ترى أن العنوان يشكّل عتبة دالة للولوج إلى النص الإبداعي، أو يساهم كثيرا في التقريب مابين المنجز الإبداعي والقارئ. وفي رواية “نوكيا” للأديب باسم سليمان نلاحظ أن العنوان وقبل قراءة الرواية يثير عدة تساؤلات، عنوان إشكالي وملتبس، فيه الكثير من المغامرة من حيث التسمية الأولى كعنوان لرواية، كان بإمكان المؤلف أن يختار عنواناً مثيرا لافتا جذابا، وهذا ليس بالأمر الصعب عليه، لكننا ما إن نغوص أكثر في بحر هذا النص الروائي اللافت والمدهش،. حتى نعرف لماذا هذا العنوان. وبالعودة إلى العنونات التي جاءت على شكل فصول في الرواية، سنجد الأمر مع باسم هنا مختلف تماما عن العنوان الرئيسي، لقد قسّم الروائي روايته لعنونات رئيسية هي: (القلفة، أطلنطس، الهبوط، الغرق، الخلود). هنا سيكون الأمر مختلفا تماما من حيث العنوان الرئيس للرواية “نوكيا” هنا العنونات الفرعية لم تكن مباشرة فجة وساذجة وإنما ساهمت في جسر الهوة بين القارئ والعنوان، وساهمت بإضافة جمالية ثرة أغنت المشهد الروائي في الشكل البنيوي للرواية، ففي روايته هذه يقدم لنا باسم سليمان نصا روائيا يؤرخ فيه سيرة جيل قبل الحرب بقليل وأثناء الحرب في سورية، جيل عانى المرارة والمستقبل الضبابي وانكسار أحلامه على صخرة واقع مؤلم، مثلما الصخرة على البحر، التي جعل منها سليمان مكانا من أمكنة أحداث روايته. إذاً هو لم يتطرق للحرب بسذاجة ولا بمباشرة فجة، حتى أنه لم يزج قارئه أو أبطاله في الحرب، ثمة إضاءات قرأناها في فصل الغرق تشي ولا تنم عن حدث ما له علاقة بالحرب سوى مشهد الغرق في فصل الغرق: (ظهر خبر على قناة تلفزيونية يتناول قضية الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وحوادث الغرق التي ينتهي إليها مصير المهاجرين غير الشرعيين.) ص 82.
لا يمكننا أن نطلق على هذه الرواية تسمية سيرة بطل فردي، على الرغم من أن شخصيات الرواية قليلة، هي سيرة جيل اختصره الروائي بثلاث شخصيات من جيل واحد هم (باسم ومحمود وداني)، لكل منهم أحلامه وطموحاته وتطلعاته ومع شخصية باسم سنكتشف العنوان (نوكيا)، حيث باسم الذي يعيش حالته وحياته الافتراضية بكل معطياتها من حب وأمل وحزن وخيبات الخ، مع جهاز (نوكيا)، أما محمود فيعيش حياته في محاولة المطابقة مابين المتخيل من سرد وشعر، على حين نجد داني شخصا ينتمي للواقع.
وسنجد مصائر وأقدار حزينة كوّنت نهايتهم في هذه الرواية. حتى (عليا) التي ترك محمود في أحشائها جنينا وهاجر لم يكن أمامها سوى باسم الذي تزوجها.(محمود ترك جنينا في رحم عليا، فالجنين لا ذاكرة له، ولن يعاني من عقدة أوديب، كما لم يعان منها موبايل النوكيا. الذي قمت ببيعه لعدم وجود ذاكرة لاشعورية لديه، فعندما يولد، سيعتبر أباه أي ذكر قربه، وسيكون خذلان أبيه له خارج نطاق مداركه، كالخطيئة الأولى رتّبت نزولنا إلى الأرض) ص 100.
رواية “نوكيا” من الروايات التي تقرأ بكل شغف منذ صفحاتها الأولى إلى النهاية، رواية فيها من تقنيات السرد الحديث الكثير، وفيها من الاشتغالات الحداثوية المنسجمة مع بنية وروح هذه الرواية، والتكنيك والتخييل والانزياحات والديالوج والمونولوج، وتلك اللغة الحافلة في الكثير منها بشعرية باسم سليمان، في هذه الرواية استخدم الروائي السرد بضمير المتكلّم، سرد يوهم بتطابق أو بتماهي صوت الراوي في النص مع صوت المؤلف الحقيقي في الواقع، كما يوهم بواقعية التجربة وحقيقية الشخصيات، من هنا يأتي الربط الظالم بين شخصية المؤلف وشخصية بطله، فإذا كان الناقد (بريان) يرى أن سرد المخاطب هو السرد الذي يكون فيه المروي له بطل الرواية.
هم ثلاثة شبان في مقتبل العمر وعلى مفترق طرق، وأمام مواجهة حقيقية وصادقة مع واقع قاس ومؤلم وجارح بشكل لا يطاق ( باسم ومحمود وداني) ثلاث شخصيات محورية بنى على متنها باسم سليمان العمود الفقري لبينة نصه الروائي. رواية نوكيا منذ البداية تشدنا للمتابعة، تنتمي هذه الرواية إلى الرواية الحديثة من حيث السرد والاشتغالات وذاك الخيط الخفي الذي يضفي نهاية مفتوحة على نهاية أكثر انفتاحا، نهاية مطلسمة، ولربما هي دعوة واضحة وصريحة للقارئ، الذي يتمناه باسم سليمان شريكا له في نصه الروائي هذا، وهو أمر أحبذه أنا كثيرا إذ أن القارئ الذكي هو شريك حقيقي للمبدع، وكان من الممكن أن ينهي باسم سليمان روايته في الصفحة 122 (طنّ موبايلي برسالة أغفلتها قليلاٌ، وبعد فترة جلست عليا تستريح على صخرة كما كانت تفعل بكل مشاويرنا، فتحت الموبايل وقرأت رسالة باللغة الانكليزية تقول:(كيف حالك باسم، أنا محمود.) ص 123 –
لم تكن تلك النهاية للرواية. التي كنا نتوقعها وإنما جاءت كالتالي: ( في ملحق جريدة الثورة الثقافي العدد 2224 تاريخ 16 /12/ 2011
هنا سنتوقف عند هذا الاختيار لنهاية هذه الرواية، ومما لاشك فيه أن هذه النهاية والإسقاطات الكثيرة القابلة للتأويل هل هو إعلان عن مشروع نص روائي يحتفي بذاته، وبكثير من الأناقة بكثير من المحبة.. رواية نوكيا لباسم سليمان رواية تستحق الكثير من القراءة والوقفات الأطول.
الرواية صادرة في دمشق 2018عن دار سين ودار الهيثم وتقع في 134 صفحة من القطع المتوسط.
أحمد عساف