الرحيل المدوّي
عظمةُ الرجال الذين يصنعون التاريخ، أن حضورهم يتجدّد، ويتنامى في ميداني الزمان والمكان، ووجدان الناس، وتطلعات الأجيال، ليعطي للحياة رونقها ومعناها وبهاءها الذي يتحدّى الذبول والنسيان، ويقهر الغياب..
والقائد المؤسس حافظ الأسد، الذي يمجّد شعبنا ذكراه هذه الأيام، ويفتح سجل إنجازاتنا بقيادته، استطاع أن يكون الأنموذج الأروع للقائد، والأب، والمناضل، والمعلم، والباني الذي أرسى قواعد دولة مهابة الجانب عصيّة على الأعداء، حتى احتل وصفها (بأنها أكبر حاملة طائرات برية في العالم) المساحات الأوسع والأسطع في الإعلام العالمي..
وقد كان القائد قارئاً بارعاً للتاريخ في غابره، وحاضره، ومستقبله وقد ترك لجيلنا من المقولات التي ترقى إلى مستوى قراءة قوانين القادم من الأيام. ففي كتاب الصحفي البريطاني الشهير باتريك سيل (الصراع على سورية) قال: (سيادة الرئيس، أرجو أن تتفضلوا بجملة واحدة أختم بها هذا الكتاب عن سورية، تلخّص تطلعاتكم المستقبلية، ورأيكم في القضية المركزية للعرب، والحلول المطروحة والمنتظرة). أجاب القائد المؤسس بكلمتين تشكّلان جوهر الواقع وحقيقته، أمس، واليوم، وغداً، حيث قال (ويستمر الصراع)، ولقد كانت هذه الكلمة قبل أكثر من أربعين عاماً!!.
ويوم خرج السادات، من معركة المصير العربي الواحد، وغسل يديه من القضية الفلسطينية، ورهن لأمر إسرائيل وأمريكا والرجعية، النيلَ والأهرامَ، وتراثَ عبد الناصر، راح القائد المؤسس يستنفر بقايا الرجولة عند بعض الممسكين بجمر القضية، فكانت جبهة الصمود والتصدي، التي لم تعش طويلاً، لأن سرطان النفط كان الأقتل في ساحة العمل (العربي المشترك)، وخاصة بعدما أُفرغت خزائن الخليج لحساب الحرب العراقية على إيران التي جعلت من ثورتها الإسلامية سلاحاً في يد شرفاء المقاومين من أجل الحق الفلسطيني.
وعلى الرغم من الدماء التي أسالتها السيارات المفخّخة التي أرسلها، صدام حسين، لتزرعَ الموت والدمار في شوارع دمشق، فقد تعالى القائد المؤسس على الجراح النفّارة، وقام بزيارة إلى بغداد، أدهشت العالم بتوقيتها وأهدافها قائلاً: (إن الأحداث الاستثنائية تحتاج إلى مواقف وإرادات في مستواها). ويوم شاهد -صدام- الاحتفاء الشعبي غير المسبوق في تاريخ العراق، منذ أبي جعفر المنصور حتى زيارة الأسد، قام باختراع اتهامٍ لسورية بمؤامرة ضد العراق، وأطلق النار على الحلم الوحدوي بين دمشق وبغداد بما تحملان من رمزية تاريخية جذراها (بنو أمية وبنو العباس) بعدما أصبحت الوحدة عبر الميثاق والوثائق وعواطف الجماهير في القطرين أقرب مما بين البطين والأذين في القلب الواحد.
وحتى لا يبقى الحدث التاريخي في التاريخ العربي -كامب ديفد- وحيداً، فقد وجّه صدام حسين طاقات العراق المدعومة بأموال الخليج للإجهاز على الثورة الإيرانية في ريعانها خدمة للصهيونية العالمية وأمريكا والرجعية النفطية.
وهنا كان الدور المفتاحي، والتاريخي للقائد المؤسس حافظ الأسد الذي وقف يتحدّى حكام العرب (ملوكاً ومماليك) قائلاً: أعطوني دليلاً واحداً يستدعي معاداة الثورة الإيرانية من قبل الحكام العرب، أليست هي الأكثر التزاماً بالقدس وفلسطين من معظم الحكام والأمراء والمشيخيات، ألم تصف -إسرائيل- بالغدة السرطانية التي يجب استئصالها قبل أن تتمدّد في جسد المنطقة وتقضي عليه.. وهنا أذكر أن حواراً جرى بين القائد المؤسس والملك فهد في مؤتمر القاهرة بُعيد اجتياح -صدام- للكويت، قال الملك: (الأخ أبو سليمان والله إنك أحكم العرب، وأبعدهم نظراً، وأسدهم رأياً، وأكثرهم معرفة بالرجال، يوم قلت لنا إن دعمكم لصدام في عدوانه على الثورة الإسلامية الإيرانية جريمة تاريخية ترتكبونها لمصلحة أعداء العرب، الصهيونية وأمريكا، وأن هذا -الوحش- عندما يفرغ من وليمته الإيرانية سوف يلتفت إليكم ينهشكم واحداً واحداً، لم نكن نأخذ هذه النصيحة بالجدية اللازمة، وكنّا نتصور أنها نتيجة التنافس بينكم وبين العراق كحزب واحد.. أما اليوم وقد (وقعت الواقعة)، أدركنا أن الحق، كل الحق، فيما كنتم تقولون وتحذّرون منه.. والآن نأمل دعمكم لتحرير الكويت وإيقاف هذا الشر الزاحف علينا..)، وهنا كانت بداية مشاركة الجيش السوري في تحرير الكويت إلى جانب مصر والدول العربية الأخرى..
لقد كانت الكرامة الوطنية، والعروبة راسخة الجذور، رفيعة الذرى في مواقف القائد المؤسس، ولعلّ العالم يشهد، كم توسله رؤساء أمريكا (السبعة في عهده) لزيارة واشنطن شأن جميع ملوك وأباطرة ورؤساء العالم، فكان يعتذر لأن أمريكا منفذة لسياسة -إسرائيل- في المنطقة، وكان يلتقي رؤساء أمريكا إما في دمشق (نكسون- كلنتون) أو في جنيف في منتصف الطريق بين دمشق وواشنطن!!.
ويوم تلقى هدية الرئيس الأمريكي نكسون، والتي حملها الوزير هنري كيسنجر، وكانت بعض حصيات من تربة القمر، كان ردّ سيادته عليها: (نرجو أن يعلم الرئيس نكسون وجميع الأمريكيين أن ذرة واحدة من صخور الجولان، والقدس، تساوي الشمس والقمر معاً في عقيدة الشعب العربي السوري). أما محورية القضية الفلسطينية، ومركزيتها في حياة شعبنا، فيشرحها جواب سيادته عن سؤال الرئيس الأمريكي كلينتون: (هل ما زلتم في سورية سيادة الرئيس تقولون إن فلسطين هي الجزء الجنوبي من سورية بعد كامب ديفد، وأوسلو، ووادي عربة)؟، حيث كان جواب الأسد: (نزداد اقتناعاً كل يوم أن سورية هي الجزء الشمالي من فلسطين والقدس والجولان في وسطها)..
أما الجيش السوري العروبي الهوية والهوى والانتماء، والذي تخرّج بامتياز في مدرسة تشرين، فقد حقّق من الانتصارات الباهرة ما رفع شهداءه الأبرار إلى رفرف الخلود، وسجل أسماءهم بأحرف من نجوم ساطعة بانتصارهم في الحرب الوطنية العظمى على وحوش الكون الذين حشدتهم الصهيونية وأمريكا والرجعية العربية تحت مسميات أقلها فتكاً الإرهاب التكفيري الوهابي الرجعي..
لقد وقفت أيها القائد المؤسس حياتك على خدمة شعبك العظيم وجيشك العقائدي، الذي أصبح أسطورة في البذل والتضحية، وكأني بجدنا المتنبي شاعر العروبة الأكبر كان يعنيكم بوصفه العلاقة الجدلية بين تماهي القائد بجنوده، واستبسال الجنود فداءً لوطنهم وقائدهم يوم قال:
الجيشُ جيشُكَ غير أنك جيشـــــــهُ في قلـــبـــهِ ويـــمـيـنهِ وشمالهِ
يــــامــــن يُــــريــــدُ رجـــــاله لحـيــــاتـــهِ هــــذا يُــريــــدُ حـيـاتَه لرجالهِ
لقد شيّدت عمارات من المحبة في قلوب الجماهير، كما في كل مفاصل الوطن وفواصله وزروعه، وفروعه، وحقوله وسنابله، وسواعده المفولذة، وصموده العملاق..
ففي ذكراك الراسخة يستقيل الدمع من عيون محبيك، وهم كل شعبنا، وتتصلّب الإرادات، وشعارنا على الدوام قولتك الخالدة: (الوطن هو ذاتنا، والوطن هو نحن، وكل شيء يهون أمام عزة هذا الوطن وقيمه وشموخه) مرددين مع الجواهري الكبير:
قـــــد كــــــانَ حــولكَ ألفُ جارٍ يبتغي هدمً ووحـدَكَ من يريدُ بناءَ
لله صــدرُك مــــا أشــــــدّ ضــــلوعـــــهِ في شـــــدةٍ وأرقـــهــــنّ رخـــاءَ
يا أيهــــا الــــرجل العظـــيـــم أمـــضَّهُ شـــــوقٌ فـزارَ رفاقهُ الشهداءَ
نم آمـــنــــاً ســــتمدّ روحـــــك حـــــــرةً وسط الكفاح رفاقكَ الأُمناءَ
د. صابر فلحوط