الصورة الأولى
كنت في العاشرة من عمري عندما رافقت أهل الحي إلى ساحة البلدة، التي كان الناس ينتظرون فيها والبهجة ترتسم على محيّاهم.. ولم يطلْ انتظارنا كثيراً، إذ وصلت سيارة عسكرية مكشوفة، يطلّ منها رجل سمح الملامح، يبتسم للناس ويلوّح لهم بالتحية.
لم أفهم حينها هذه الحالة فعدت أدراجي إلى البيت، وكانت أمي قد افتقدتني فسألتني أين كنت؟ فأجبتها في ساحة المدينة حيث الناس هناك يسلّمون على رجل لم أعرفه، فأجابتني وقد تغيّرت ملامحها: “معناها وصل الرئيس”، وسألتها من هو الرئيس؟ فقالت لي إنه رئيس سورية وقائدها.
لم أكن أدرك بوعي الطفولي حينها أن شعب سورية كله ومنهم أهالي مدينتي يجسّدون بوقفتهم هذه حالة من الإجماع عليك كحلم من حب، ترتسم تطلعاتهم وأمانيهم على جبينك أمانة كنت الحافظ الأمين لها، وكنت الحلم في أبهى حالاته، حملته بكل ثقة، وكنت أباً للجميع، والعين الساهرة على مستقبل الشعب وأمنه تتابع التفاصيل بدقة وحزم.
اليوم، في ذكرى رحيلك، نستحضر فترة من الزمن تجلت فيها روحك إنساناً من أمل، تشكل لوحة مزخرفة بالمحبة، إنساناً قريباً من الجميع، شاركتهم حياتهم وهواجسهم، وعشت معهم إنسانيتهم التي كانت جزءاً من إنسانيتك، فكنت الأب الحنون لأطفال فقدوا آباءهم فداء لعزة الوطن، وكنت قلباً يتسع العالم كله، قلباً ممتلئاً بالحب والعطاء، ومؤسساً لمسيرة من البناء والتطور، آمنتَ بالثقافة قناة تربط بين الفكر والسلوك، ومحصلة تاريخية لرغبة الإنسان في خلق أشكال جديدة للحياة.. الثقافة التي تتجسّد في كل هدف نعمل على تحقيقه كأفراد في المجتمع، فمثّلت رسالة سامية وملتزمة بالشعب، وسلاحاً في بناء المستقبل المشرق للأجيال القادمة، وتجذير الحضارة على كل الأصعدة، من خلالها يتم بناء الإنسان الذي هو الغاية الأهم في مسيرة الحياة، فهي مثال حي للالتزام المبدئي تجلت عندك كقائد رمز، بما جسّدته من عقل منفتح، وإمكانيات متقدمة، متصلة بإنجازات العصر، وابتكاراته وتطلعاته، في إطار التقنيات الحديثة، وقراءتها في خارطة شمولية، تعكس عملية الربط بين التطور العلمي وحاجات الواقع، والرصيد الأخلاقي والقيمي للشعب والأمة، وتكريس قيم القانون والعدالة الاجتماعية، وتكريم المبدعين، وهذا يعني الاعتراف بالآخر وشرعية اختلافه، واعتبار الحوار الصيغة الوحيدة للوصول إلى الحلول الأفضل والأنجع في حل أي عقبة أو مشكلة قد تواجه المدّ الثقافي المتصاعد إلى الأفق الأوسع.
اليوم -ورغم الحرب التي نعيشها منذ سنوات ثمانية- تطل ذكرى رحيلك الموجعة ومشروعك الذي رسمت، يكمله ويصيغ أطره قائد لا تلين عريكته ومقاتل لا تخفت شموسه، يشكل حلماً أقوى من العاصفة، وفرحاً نستعيده ونرنو إليه في مخاطبة المستقبل المنشود. ولا زالت الصورة الأولى التي رأتك فيها هذه الطفلة راسخة في ذاكرتها ووجدانها ومع مرور الزمن تزداد إشراقاً وبهاء
سلوى عباس