فـــــي الــــذكـــــرى التاســـــعـــة عــشــــــــرة لـــرحـــــيــــل الــــقــائـــــد المـــؤســس حافظ الأسد
ستحفظ ذاكرة السوريين والعرب عموماً والكثير من الساسة بالعالم صورة الرئيس حافظ الأسد، الذي قاد سورية لأكثر من ثلاثين عاماً، وجعل منها قوة إقليمية فاعلة ومؤثّرة في الساحتين العربية والدولية، وحقّق لها مكانة كبيرة عند الأعداء قبل الأصدقاء، فالقائد المؤسس كان رجل مبادئ قبل أن يكون سياسياً براغماتياً، زاوج بشكل مذهل بين المفهومين، وكان لخبرته السياسية وانتمائه الأيديولوجي لحزب البعث وشخصيته الفذّة وبراعته السياسية عناصر مكّنته من توظيف المفهومين لجهة تحقيق الأهداف التي آمن بها وسعى لتحقيقها.
وبالعودة للذاكرة التاريخية، فقد استطاع القائد المؤسس أن يقوم بحركة تغيير داخل الحزب بهدف تطوير سياسات الحزب ونهج الدولة السورية وتصحيحهما، في ظروف غاية في الصعوبة، حيث الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية بعد عدوان حزيران، والعزلة التي وضعت القيادة السورية البلاد فيها بسبب التعنّت الأيديولوجي وتبني خطاب داخلي يركّز على الصراع الطبقي بدل الوحدة الوطنية، في ظروف مواجهة مع عدو يستثمر الانقسامات الداخلية لإضعاف الحالة الوطنية، وترافقت تلك السياسة أيضاً مع قطيعة مع الدول العربية وحروب إعلامية معها، واصطفاف دولي سلبي لا يقل سوءاً عن الوضعين الداخلي والعربي؛ من هنا انطلق القائد المؤسس، الذي تمتع بتأييد شعبي واسع مكّنه من السير بسياساته الداخلية والخارجية بثقة كبيرة ورؤية واضحة تأخذ في الاعتبار تحقيق الأهداف التالية:
1- توحيد الجهاز الحزبي بوصفه العصب الأساسي كقوة منظّمة في البلاد يشكّل القاعدة الطبقية الواسعة التي تمنحه الشرعية الشعبية.
2- الانفتاح على القوى السياسية في البلاد عبر مؤسسة الجبهة الوطنية التقدمية والشراكة الحقيقية في الحكم.
3- الانفتاح على الدول العربية، بغض النظر عن شكل نظامها السياسي، بهدف تحقيق جبهة عربية واسعة لمواجهة الخطر الصهيوني، وإيجاد تضامن عربي تمهيداً لحرب تشرين، وهو ما حصل فعلاً بعد ثلاث سنوات، وبمشاركة عربية، أثبتت قومية المعركة، وأن فلسطين قاسم مشترك عربي.
4- الانفتاح على دول العالم وعدم التشرنق السياسي؛ كوننا نخوض صراعاً وجودياً مع عدو له استطالاته ونفوذه في مراكز القرار العالمي، وتمّ توظيفه لخدمة استراتيجيته العدوانية مستغلاً حالة الفراغ التي شكلتها الدول العربية في المحافل الدولية، الأمر الذي انعكس سلباً على قضيتنا المركزية ومواجهة عدو يحتل أرضنا ويسوّق نفسه، إعلامياً وسياسياً، على أنه الضحية.
5- تعزيز العلاقة مع الأصدقاء والحلفاء دونما أي مساس بالقرار الوطني المستقل أو التمحور والاستقطاب بما يضر قضيتنا المركزية، القضية الفلسطينية، أو ينعكس سلباً على قضايانا الوطنية ومصالح شعبنا.
6- تطوير أفكار الحزب وسياساته وبرامجه، عبر خطاب التصحيح، الذي قارب فكر الحزب وأدبياته بصيغة عملية تنطلق من قاعدة أن أفضل الأفكار هي تلك القابلة للتطبيق لا التي لا تجد لها مجالاً أو فرصة للنجاح، وعبر واقعية سياسية تسعى لتحقيق المنفعة العامة لأوسع الجماهير، على قاعدة أن للحزب قاعدتين تنظيمية هي منتسبيه، وشعبية جماهيرية هي ما يمثّله ويتمثّله طبقياً من عمال وفلاحين وصغار كسبه وحرفيين ومثقفين ثوريين وجنود وغيرهم، أي حيزه الاجتماعي الواسع.
7- مقاربة فكرة الوحدة العربية واقعياً على قاعدة أن الوحدة العربية مصلحة للعرب بغض النظر عن بنية الأنظمة السياسية، فالمصلحة القومية ثابتة والنظام السياسي متحوّل، ووفق ذلك الفهم كان مشروع الوحدة مع الأردن عام 1976، وقبله اتحاد الجمهوريات العربية، وبعده ميثاق العمل القومي مع العراق عام 1978، وكان للقائد المؤسس فلسفة واضحة في مقاربة فكرة الوحدة وضّحها بشكل مستفيض في المؤتمر القومي الثاني عشر للحزب عام 1975.
لقد استطاع القائد المؤسس مواجهة أكبر تحدّ واجهته الأمة العربية؛ تمثّل بخروج مصر عن الصف العربي، بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد، وما أعقب ذلك من عدوان إسرائيلي على لبنان، والحرب العراقية الإيرانية، وبداية تراجع دور الاتحاد السوفييتي مع وصول غورباتشوف للحكم. كل ذلك شكّل مناخاً، دولياً وعربياً، في غير صالحنا، ومع ذلك استطاع الرئيس الأسد ببراعته السياسية وإمساكه بأوراق اللعبة الدولية تشكيل جبهة مواجهة سياسية عربية تحت عنوان الصمود والتصدي، استطاعت لجم الاندفاعة باتجاه التطبيع مع العدو الصهيوني، بالإضافة إلى العلاقة الاستراتيجية مع الثورة الايرانية الناشئة، والتي استطاعت ان تملأ الفراغ الذي شكّله خروج مصر من دائرة الصراع العربي الصهيوني، وهنا أصبحت المنطقة أمام قواعد اشتباك سياسي ونضالي جديد أعاد التوازن إلى معادلة الصراع مع العدو، لتعود سورية قوية إلى واجهة المشهد السياسي العربي والإقليمي كلاعب أساسي يملك أغلب أوراق اللعبة وأهمها.
لقد استطاع القائد المؤسس حافظ الأسد، وطيلة الفترة الممتدة منذ منتصف الثمانينات وحتى رحيله في العاشر من حزيران عام 2000، أن يكون الرقم الصعب في كل تضاريس المشهد الإقليمي والدولي، على الرغم من التحوّلات التي حصلت في النظام الدولي، وفي غير صالحنا استراتيجياً، وتتمثّل بانهيار وتفكّك الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، والسطوة الأميركية على القرار الدولي، ومحاولات استثمارها للضغط على سورية عبر الرؤساء الأميركيين بوش الابن وكلينتون، ولكن دون جدوى، لأن الرئيس الأسد امتلك الكثير من الأوراق الضاغطة في لعبة الأمم والصراع في المنطقة، وأهمها قوة سورية جيشاً وشعباً، وإرادة سياسية لا تساوم ولا تهادن، وفعل مقاوم على الأرض يتمثّل بالمقاومة اللبنانية والفلسطينية، وحليف استراتيجي يتمثّل بالجمهورية الإسلامية الإيرانية وروسيا الاتحادية.
لقد تحدّث أكثر قادة العالم عن القائد المؤسس حافظ الأسد بعد رحيله، سواء كانوا في دائرة الأصدقاء أو غيرهم، ويمكن تلخيصها بما جاء على لسان السياسي الروسي الشهير يفغيني بريماكوف بقوله: “لقد رحل آخر القادة العظام في القرن العشرين”.
د. خلف المفتاح