منذ الستينيات وحتى اليوم ملف العشوائيات.. حضور يتصف بالديمومة في أدراج المؤسسات.. وحلول تتلاشى تحت ضغط الأعباء
لم يكف القاطنين في المناطق العشوائية أو المخالفات، كما يحلو للبعض تسميتها، أن يبقى ملف سكنهم حاضراً في ذهن المعنيين، بل كان الأمل بتحسين المستوى المكاني، وتأهيله ليكون فعلاً أهلاً للسكن، ورغم تعاقب الإدارات والحكومات، بقيت العشوائيات على “قيد الإهمال” منذ الستينيات وحتى الـ 2006 عند صدور مرسوم تنظيم منطقة خلف الرازي، وبعد ما شهدته البلاد من دمار سببته الحرب، فرض على أصحاب الشأن إعادة إعمار ما هدمه الإرهاب، وهي بمعظمها مناطق عشوائية، لتبقى مخالفات أخرى تنتظر تحسينها، وترميم بعض منها.
عفا عليها الزمن
فكرة تنظيم الحزام المحيط بمدينة دمشق ليست وليدة اليوم، بل تعود لعام 1968، إلا أن التطبيق حتى يومنا هذا لم يصل لـ 20%، مدير التنظيم في محافظة دمشق المهندس إبراهيم دياب بيّن أسباب انتشار العشوائيات بشكل كبير في دمشق، وهي أسباب معروفة للجميع، كانت الهجرة الداخلية أولها، وقصد العاصمة على اعتبارها مركزاً اقتصادياً وتنموياً وحيوياً، واتخذ الوافدون مناطق التوسع الخضراء والعقارية أماكن سكن دائم لهم باعتبارها رخيصة مقارنة بغيرها، كل ما ذكره دياب ليس جديداً أو غريباً، بل نسبة الإنجاز مما خطط منذ ذلك الحين هو الغريب، إذ لم يجد المهندس دياب أية صعوبة عندما كشف عن نسبة الإنجاز التي بلغت 17% فقط منذ وضع أول مصور لمدينة دمشق من قبل ايكوشار عام 1968 وحتى يومنا هذا، وبحسب دياب فإن هذا المخطط أول مصور عام لدمشق حاكى أسس التخطيط والتنظيم العالمية، وكان من المفترض أن يكون عمره 20 عاماً، إضافة إلى أن المصور لم يطور رغم تعاقب الإدارات، وعزا مدير التخطيط العجز في التنفيذ إلى الحرب، وسرعة التوافد القديمة الجديدة للعاصمة، والتي كانت أسرع من التخطيط، ولم يلحظ المصور هذا التزايد السريع فتوسعت العشوائيات ليصعب تنظيمها في الوقت الراهن.
صحوة لم تكتمل
ومع أن القاصي والداني يعلم جيداً أن الفقر وتدني المستوى المعيشي هما من دفع معظم المواطنين للسكن في تلك المناطق بحثاً عن العلم أو العمل، واستأجروا أو اشتروا رغم سوء الظروف المكانية والخدمية التي لم تشهد أي تحسن أو اهتمام يذكر، ومع ذلك بقي مدير التنظيم مصراً على أن المعنيين لم يقصروا تجاه تلك المناطق، وعلى ما يبدو فإن البنى التحتية (شبكات ماء وكهرباء) التي وفرتها الدولة للعشوائيات كانت الحجة بأن المخالفات مخدّمة وتصلح للعيش، لاسيما أن المحافظة لا تخدم المناطق والأحياء التي تبنى حديثاً حتى لا تتوسع تلك المناطق، بحسب دياب الذي أكد أن المحافظة عملت في الـ 2006 على تطوير المناطق، وصدر قرار المكتب التنفيذي لدراسة المخالفات، ومناطق التوسع العمراني، ومناطق التطوير العقاري ضمن المدينة ومحيطها، (حدود مدينة دمشق والتوسع الحيوي للمدينة) الذي قد يصل في تسمية المحافظة حالياً للريف (جزء من زملكا وعين ترما وقدسيا)، وهو ملحوظ في المصور العام، وباتت العشوائيات من ضمنه، وأضاف دياب: توجهت المحافظة في هذا الوقت لوضع مصور يتماشى مع أسس ومعايير التخطيط العام، وكلفت جهة خاصة لبنانية بدراسة مصور عام، ووضع أول وثاني مرحلة للمخطط، ولكن في المرحلة الثالثة بدأت الحرب فتوقف العمل، وغادر المخططون البلد، وخلال الأزمة زادت الهجرة من المحافظات وريف دمشق للعشوائيات في العاصمة كونها رخيصة نسبياً إذا ما قورنت بغيرها، وهنا استغل تجار المخالفات ظروف الحرب لإشادة أبنية جديدة كسباً للربح.
أولوية الإعمار
ومع الرغبة بإعادة المهجّرين لمنازلهم ومناطقهم كأولوية، أكد مدير التنظيم أن المحافظة توجهت للمناطق الأكثر ضرراً كالغوطة، وجوبر، وزملكا، والقابون، وبرزة، والمخيم بغية المساهمة بإعادة الإعمار، والمساهمة بعودة الأهالي لمناطقهم وبيوتهم، كما صدر في الـ 2012 مرسوم تنظيم خلف الرازي إلى جانب وجود أكثر من 10 رخص أجريت دراستها في نقابة المهندسين، ودفعت رسومها بغية وضع المخططات اللازمة، في حين يتجه المخطط الحالي لمنطقة القابون الصناعية كمرحلة أولى، ومناطق مخالفات جوبر كمرحلة ثانية، والقابون السكني كمرحلة ثالثة، وبوشر بأعمال الشروط والتعاقد مع الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية، وجامعة دمشق، وتم إنجاز المرحلة الأولى من منطقة اليرموك، على أن تنجز المصورات العامة لهذه المناطق خلال عام بناء على طلب الحكومة، وعند السؤال عن بدء الإعمار، وتطبيق الدراسات، امتثل الجواب لحقيقة الإمكانيات والكلف الهائلة، ومع تملص وزارة الإدارة المحلية من الرد على استفسارات “البعث” رغم المحاولات المتكررة، جاء الجواب أخيراً من أروقتها بأن مهمة الوزارة فقط التقييم والمتابعة، على عكس المهندس دياب الذي وصف دورها بالبوتقة التي تصب فيها جميع الأعمال التنظيمية الصادرة عن المحافظة، وتصديق المصورات ومتابعتها، كما أكد على أنهم شركاء بلجان التدقيق واستلام المصورات التنظيمية، وبجعبة “المحلية” اليوم مصور قيد التصديق هو جنوب المتحلق الجنوبي، ويتضمن جزءاً من داريا والدحاديل، وجزءاً من القدم، وهو مرسل من قبل محافظة دمشق بانتظار الاجتماع لوضع اللمسات الأخيرة لتصديقه، ما يدل على أن دور وزارة الإدارة المحلية جوهري ومهم وليس كما صدّر إلينا كجهة إعلامية على أنه ثانوي، ورغم أنهم شركاء محافظة دمشق، أكد مكتبهم الصحفي أثناء الاتصال معهم بأن الملف من مهام وزارة الإسكان!.
تردد هندسي
في أحاديث الإعمار لابد من التشبيك مع المهندسين، لكن ما أفضى به مدير التنظيم لا يبيّن أن هناك أية بوادر من قبل نقابة المهندسين للخوض في حديث العشوائيات، فالكتاب الصادر من رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 10/6/2018، والذي وجه بموجبه محافظة دمشق لتكليف نقابة المهندسين لتنظيم المناطق وفق الأولويات، لم يلق أية إجابة من قبل النقابة، ومع أن دياب لم يرغب بتحميل الأخيرة أي وزر، اتضح لنا من خلال حديث دياب الذي أكد دعوة المحافظة النقابة للاجتماع وعدم تلبية ذلك، بأن لا رغبة لديهم بالمشاركة، ليكون البديل عن ذلك، بحسب مدير التنظيم، التوجه لجهة أخرى، أو طرحها كمناقصة بين شركات القطاع العام والخاص، منوّهاً إلى وجود رغبة من قبل الدول الصديقة ليكونوا شركاء في مرحلة الإعمار، وأبدى البعض رغبة جدية بتنظيم بعض المناطق، وقدموا عروضاً للدخول بحصص أو أسهم، إضافة لشركة شام القابضة المخولة للتعاقد مع أية جهة، وهي اليد التنفيذية للمحافظة، مشيراً إلى أن المراسيم التي ستصدر ستمنح فرصة للأهالي ليكونوا مشاركين في البناء على غرار المرسوم 66.
ما يراه المعماريون
عندما يكون المأمول أكبر من الواقع، يصطدم البعض، وقد يرفض الحقيقة رغم ضرورة الوقوف عندها، وهذا ما حصل في كلية الهندسة المعمارية عند لقاء الدكتور زياد مهنا “أستاذ في الكلية”، واستشاري سابق في الشركة العامة للدراسات الذي تمنى طيلة الجلسة التي استمرت ساعة عدم ذكر اسمه، وهذا لا يمكن عند البحث عن حقيقة وحل، وأن ما يجري في مكتبه هو عبارة عن إيضاح للموضوع وشرح لا أكثر، إلا أن أهم ما زودنا به الدكتور مهنا بأن مصطلح تنظيم العشوائيات كبير وفضفاض وغير ممكن في الوقت الراهن، والإعمار يحتاج لزمن وإمكانيات وأصدقاء، خاصة مع تواجد تراكم من العائلات والأبنية، وتغطية المهجّرين اليوم يحتاج لسنوات، فكيف عند الحديث عن 50 سنة مضت، في وقت أوضح أن الحرب وما أفرزته من خراب كبير، وتهديم للمنازل، وتهجير للأهالي، هي التي دفعت المعنيين لإعادة إعمار العشوائيات المهدمة بفعل الإرهاب، فكيف، بحسب مهنا، يتم تنظيم مناطق مسكونة بالملايين ومدفوع بها “حيلة وفتيلة” قاطنها؟ وهل بإمكان المعنيين تأمين سكن بديل في الظرف الراهن، وحتى ولو تواجد الشركاء والأصدقاء فإن الإعمار، والقول للدكتور مهنا، لا يمكن أن يحصل بين ليلة وضحاها، وبحسبة بسيطة أجراها مهنا خرج بتكلفة عالية افتراضية وصلت للمليارات لمشاريع التنظيم والهدم وتأمين السكن، والدولة فيما هي عليه حالياً غير قادرة على ذلك، فهي تحتاج لخطة بنائية سكنية لا تقل عن 100 ألف مسكن لتغطية 500 ألف عائلة على فرض متوسط العائلة السورية 5 أفراد، أي هي تحتاج لـ 40 أو 50 عاماً لتخطيط هذا إذا توقف النمو السكاني.
حلول تم طرحها
الدكتور مهنا أوضح أن ضمن ما طرحته الجامعة ثلاثة حلول للعشوائيات: الهدم، أو إعادة التأهيل، أو الدمج بينهما، على أن ما يتم هدمه يكون محدداً وفق مناطق تنظيمية لأسباب تقنية، كما حال الحرب، أما المناطق المأهولة فيمكن تحسين المستوى المكاني فيها وتخديمها، وهذا يختصر الوقت والجهد والمال، ورغم تأكيد مهنا بأنه لا يوجد شيء مستحيل هدمه في عالم الهندسة، إلا أن الزمن لا ينتظر أحداً، والمطلوب اليوم خدمة الناس الموجودة، لاسيما التي تعرّضت للنزوح بفعل الإرهاب، فهي لها الأحقية بالسكن بمنازل منظمة، منوّهاً لضرورة الإسراع بتأمين بدل سكن لهم كي لا تحصل كارثة، وتزداد العشوائيات، وشدد بالوقت ذاته على ضرورة وضع خطط استراتيجية واقعية عبر مخططات تنظيمية قد تكون بمساعدة الأصدقاء، مع خطط زمنية واقتصادية لنهضة المناطق المهدمة، وهذا الواقع، أما الجزء الوهمي من التخطيط فهو، على حد تعبيره، هدم المناطق القديمة، وهذا مستحيل، إذ لا يمكن وضع عبء فوق آخر، وإذا توفرت القدرة المستقبلية، قد يتم التفكير بالمناطق المأهولة.
نجوى عيدة