عالم من الابتذال
ليس غريباً أن يتزامن ارتفاع حدّة الرهانات الصفرية في المنطقة والعالم مع “ارتفاع” حدّة الابتذال السياسي والأخلاقي، الذي تدنت إليه دول وأطراف محدّدة لا تجد لها مكاناً دونه، وبعضها ليس لها تعزية سواه، فمن الواضح، تاريخياً، أن المرحلة الحرجة التي تمرّ بها الرأسمالية العالمية في سعيها المستمر لـ”سلعنة” العالم كله، دولاً وأفراداً، تحتاج بالضرورة إلى تعميق مرحلة ابتذال كل ما هو جيد وخيّر في البشرية، لأن كل ما هو مبتذل لا حمولة رمزية له، وبالتالي يغدو بالضرورة قابلاً للتداول، بيعاً وشراء، وكل ما يمكن بيعه وشراؤه لا يستحق الدفاع عنه، وبالتالي لا قضايا مقدّسة ولا رموز بشرية كبرى، بل مجرد سلع وأثمان مجردة في سوق الذئاب المفتوح هذا.
ففي مواجهة التحذير الروسي الجدي من توابع مرور هذا العالم “في مرحلة خطرة” جراء الاضطرابات “المتزايدة للأمن والاستقرار الدوليين، وتدهور نظام الحد من الأسلحة، وأزمة أنموذج العولمة الحالي، وإساءة استخدام التدابير الحمائية”، بحسب تعابير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبالتالي ضرورة “البحث عن بدائل للمواجهة المتزايدة، وابتداع حلول بنّاءة للمشاكل العالمية الملحة”، كانت واشنطن مستمرة في ابتذالها، المتعمّد، للقوانين والقواعد الدولية في علاقتها مع الآخر، من روسيا إلى الصين إلى إيران وكوريا وفنزويلا، وصولاً إلى حلفائها في أوروبا وغيرها، لأن مكانتها الدولية ومصالحها السياسية والاقتصادية لم تتحقق سابقاً سوى عن “طريق الدفع الفظ والأناني” بالمخاطر إلى حدها الأعلى، و”خاصة من خلال العقوبات والحروب التجارية”، وهي اليوم لا ترى سوى المضي قدماً في هذا الطريق الذي يحقق وحده – بحسب نخبها السياسية والاقتصادية الحاكمة – استمرار سيطرتها وهيمنتها على العالم أجمع.
وإذا كان التتبع التاريخي لتطوّر عملية “الابتذال” يخرج عن نطاق هذا الحيّز، إلا أنه من الضروري الإشارة إلى أن الابتذال وصل لحدٍ غير مسبوق من الرثاثة والاتساع في الآن ذاته، بدءاً من القيم والمفاهيم والرموز المجردة، وصولاً إلى القواعد الدولية التي تضمنتها شرعة الأمم المتحدّة وتعارف العالم على الرضوخ لها، ليس حباً بها، بل منعاً لانفجار كبير شاهد نتائجه المدمّرة في حربين عالميتين على مدار القرن الماضي، وهو، أي العالم، منذ نهاية الثانية منهما، يسعى لعدم قيام الثالثة التي قال عنها رجل بمكانة “اينشتاين”، بحسب ما هو منسوب له: “لا أعرف ما هي نوعية الأسلحة التي ستستخدم فيها، لكنني أعرف أن الأسلحة التي ستستخدم في الحروب التي تليها ستكون العصي والحجارة”.
وكان آخر ما حرّر في مجال الابتذال، وما يعنينا كعرب، إعلان سفير واشنطن لدى “الكيان الصهيوني” أن لهذا الكيان “الحق المشروع” في ضمّ أجزاء من الضفة الفلسطينية المحتلّة، ضارباً عرض الحائط بكل شرعة الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، وهو، للحقيقة والتاريخ، ابتذال ما كان له أن يتمّ لولا صمت العرب، والعالم، عن ابتذال أسبق بحق القدس الشريف، وصمت آخر، يمكن أن نسميه بالابتذال المؤسس، عن احتلال استيطاني إحلالي عنصري ليس في العالم المعاصر مثيل واحد له.
وعلى عادة المغلوب في تقليد الغالب، كما يقول ابن خلدون، كان لنا، نحن العرب، حصتنا المعتبرة من الابتذال، فبعد أن حوّلت الرأسمالية العالمية الثائر الأممي “تشي غيفارا” و”نلسون مانديلا” المناضل التاريخي ضد نظام الفصل العنصري إلى سلع وماركات تجارية مربحة، كان من الطبيعي أن نبتذلهما، فنطلق ألقاب “غيفارا العرب” و”مانديلا العرب” على بعض من تلامس أجسادهم فقط قرننا الحالي، فيما رؤوسهم محشوة، ومحشورة، في ظلام، وظلاميات، و”مظلوميات” طائفية مقيتة من القرون الوسطى، ليتحوّل على أيدي هؤلاء، وأمثالهم، كل حراك مفترض نحو المستقبل إلى عودة إلزامية نحو ماضٍ لا يبدو أننا نعرف كيف نخرج منه، أو نخرجه من رؤوسنا، بعد.
خلاصة القول، لن يفنى العالم، بحسب الكاتب الإسباني كارلوس زافون، “بسبب قنبلة نووية كما تقول الصحف، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة التي ستحوّل العالم إلى نكته سخيفة”.
أحمد حسن