نوافذ 49
عبد الكريم النّاعم
قال له بعد أن تأمّله، وكان قد مرَّ زمن طويل لم يلتق به، ولكنّه يعرفه في الحضور والغياب، قال له: “أما تزال واقفاً”؟!!
لم يُدرك الآخر مُضمرات السؤال فقال: “ولمَ لا”؟!!
قال له: “أما تعبتَ من نَصْب قامتك للآخرين ليصعدوا عليها”؟!!
– ارتبك الآخر، وكان صديق ثالث واقف يسمع الحوار فأجاب دون حسّ دُعابة: “ألم تلاحظ في (العراضات) أنّ ثمّة مَن يكون كلّ دوره أن يعتلي كتفيه صاحب “العدّاويّة”؟!! لم يبتسم أحد، فقهقهَ كعبُ حجرٍ أزرق في جدار قديم، كان يُنصت.
في باكورة أحد الصباحات جلس يشرب قهوته على الشرفة المُطلّة على الشارع، مرّت بكامل فتنتها التي لا تُغادرها، لم يكن بينهما أكثر من الابتسامة الودودة الخجولة، أشارت بالسلام بطريقة لا تلحظها إلاّ عيون المحبّين، تحوّل الصباح كلّه إلى غيمة فوّاحة بالبنّ و”السَّمار”.
– بعد زمن طويل في المشاعر، وفي دورة السنين، جلس كما كان يفعل ذات زمن، على سطح بيت أحد أقربائه، في إحدى القرى، وأحسّ كم هو طفل تحت هذه القبّة المزدانة بالنّجوم، يا الله، منذ دهور فَقَدَ هذا التواصل بينه وبين عوالم الكون، في المدينة لا يُتاح له ذلك، تُرى هل يستطيع العودة إلى الوراء ليصوغ علاقاته مع الكائنات بعد كلّ هذا الاغتراب وهذه الجراح؟!! امتدّت السّهرة حتى ما قبل بزوغ الفجر بقليل، كم يحبّ هذا الأوان الذي يقترب فيه الكون من الآية الكريمة “والصّبحِ إذا تنفّس”، طلع القمر نحيلا من الجهة الشرقيّة، يا إلهي!! كم مضى على غيابه عن تلك المحطّة؟!! يا لغربة الروح، على ورقة يحتاط بها في جيبه، ودون قنديل كتب:
لأنَّ في غُبار الطّلعِ
معنى ليسَ في الغُبارْ
كانّ التّمامُ في نهاية السَّرارْ
– في بلد بعيد كان عليه أن ينام مع رفيق رحلة جمعتهما، مشكلته أنّه يكاد يلمح مافي الخفاء، فالعين لِمَن يُجيد قراءتها تبوح بالكثير الكثير، على غير قصد، كانت الابتسامة المُجامِلة طريقهما معا، بدا الليل أطول من المعهود، ولا يستطيع إطلاع الضوء، هو أبدا يحتفظ بورقة بيضاء قريبة منه ليسجّل عليها بعض الأفكار، لأنّ بعضها يخطر خطور النّيازك، فإنّ لم تدوّنه لوقته، غاب في تلك الزّرقة الكامدة، في لحظة من تلك اللحظات خطّ شيئا ما، حين أقلعت الطائرة العائدة بهم إلى الوطن، أمسك بالورقة فقرأ فيها:
حبّات عقْد بُعثرتْ على السّريرْ
وحَفْنةٌ من خالص الزّؤانْ
وصاحبي
أنا…
في غُرفةٍ عقيمةٍ نُواجِهُ الفراغَ بالدّخانْ
وبالتفاتةِ القبورْ
– شاهدتُها في الحلم، لم أرها من قبل، لا أدري لماذا ابتهجتْ خلايا روحي، وامتلأت بحبور نادر، كيف يجري هذا؟!! أهو عالم آخَر، أم عوالم مُضمَرة تتّخذ هيئات لا تعرفها إلاّ أعين الأحلام؟!!
في ثمانينيات القرن الماضي كنت عائداً من أحد مهرجانات “جرش”، قدّمت جواز سفري للموظّف المكلّف فقال وهو يفتحه: “ماذا كنتَ تفعل في الأردن”، أكره هذه اللهجة الرسميّة الجافّة، قلت: “كنت في مهرجان جرش”، قال: “هل لديك كتاب تقدّمه لي”، قلت: “ما عندي”، قال متفاصحاً: “إذن اقرأ لنا قصيدة”، شعرتُ بحمّى في رأسي، وقلت بغضب: “حين تكون مهرجاناً، وتدعوني، سأفكّر في الأمر”، قال: “لا تغضب، قبل أيام مرّ بنا (….) وذكر اسماً، وطلبنا منه فأسمعنا ما حوّل القاعة إلى مهرجان”، قلت: “تستطيع انتظاره حتى يعود مرّة أخرى”.
كم أكره الوقوف على معابر الحدود، ولا سيّما في البلدان الشقيقة، في البلدان المتقدّمة، على قلّة ما عرفتُ منها، يتعاملون معك بمزيد من الاحترام، وقد تجد من يحني رأسه احتراماً لك إذا علم أنّك من أهل القلم..
aaalnaem@gmail.com