في مديح العطالة
د. نضال الصالح
ينصّ القانون الأول للحركة، حسب نيوتن، على أنّ الجسم يظلّ ساكناً إذا كان مجموع الكميات الموجهة من القوى التي تؤثر فيه يساوي الصفر، وحسب نيوتن أيضاً فإنّ السكون لا يعني ثبات الجسم في نقطة بعينها، بل الحركة وفقَ خطّ بيانيّ جامد على مستوى الدلالة أيضاً.
وفي معاجم اللغة، وفي مادة “عطل” قول الزمخشريّ في “أساس البلاغة”: “عطّلوا ديارهم: تركوها خالية، ودار معطّلة. وتعطيل البئر: أن لا تورد. وعطّلت الإبل: تركت بلا راع. وكل ما ترك ضائعاً فقد عطّل. وتعطّل فلان: بقي بلا عمل. وعطلت المرأة وتعطّلت: إذا خلا جيدها من الحليّ”. وفي “لسان العرب” لابن منظور قوله: “وقَوْسٌ عُطُلٌ: لا وَتر عليها.. ورجل عُطُلٌ: لا سَلاح له..
وقيل: “تعطّلَ: فسدَ”، وفي موسوعة حلب المقارنة للعلّامة الأسديّ، وفي معرض توضيحه للفظ “العاطل” الذي يستخدمه الحلبيون في معجم عاميتهم قوله: “العاطل: مَن خلا من مال أو أدب أو حيلة. وهم استعملوا العاطل في المؤذي والرديء من كلّ شيء. يقولون: فلان عاطل، وهالبضاعة عاطلة”. وفي الأمثال الشعبية الحلبية، وربّما الشآمية عامة، وفي وصفهم للرجل الذي لا يؤمل خيرٌ منه، قولهم: “فلان أعطل من زرعة ما طلعتْ”.
السكونُ، والخلوّ، والفراغ، والموات، والفساد، وسوى ذلك ممّا يحيل لفظ “عطل” عليه، صفات تنفي عن العاقل وغير العاقل، بتعبير النحويين، نسبتهما إلى الحياة. وهي، فيما يعني العاقل، تعني نفياً للوعي بقيمة الزمن، القيمة الأعلى والأغلى في الحياة. ولعلّ العرب أكثر الأمم في التاريخ نأياً عن تلك القيمة، ولعلّ ذلك ما كان أصلاً في أنّ معظم المجتمعات العربية لمّا تزل ترسف بأغلال العطالة، وترزح تحت وطأة النسبة إلى المجتمعات المفوّتة حضارياً، بالمعنى الإنسانيّ للحضارة لا بمعناها الماديّ.
الوعي بالزمن، وتقديره، بل تقديسه على نحو أدقّ، والإحساس به، شأن الأمم والمجتمعات المدنية والحضارية والجديرة بانتسابها إلى الحياة، أمّا تلك الطاعنة في نقيض ذلك، فلا بدّ أنها أمم ومجتمعات كتبت على نفسها لعنة الموت على قيد الحياة، أو الحياة قيد موت، ولا بدّ، أيضاً، أنها أممٌ ومجتمعات بالشكل لا بالجوهر، وبالمبنى وحده لا بالمعنى بآن، وبالمادة وحدها لا بالروح بآن.
تلك اللعنة تبدأ من الفرد، ومجموع الأفراد الذين ينضوي وعيهم، وسلوكهم، ويومهم، تحت عباءة هذه اللعنة، يعني مجموع المجتمع الذي ينتمون إليه، بل هم صورته بهذه الدرجة أو تلك. ولا يعني المجتمع هنا ما يعنيه فحسب، بل ما يحيل عليه من مفهوم الجماعة البشرية التي تشترك فيما بينها في النسبة إلى صفة، أو وظيفة، أو مؤسسة، أو سوى ذلك.
وإذا كان المثقّف، بالواجب والضرورة، أكثر الناس وعياً بما يُعلي من شأن الحياة، أي ممّا يعني حركتها ومضيّها إلى الأمام، فلا بدّ أنه أكثرهم وعياً، بالواجب والضرورة أيضاً، بالزمن، وبضرورة تقديره، وتقديسه، والإحساس به. ولكن كيف إن لم يكن هذا “المثقف” كذلك؟! إن لم يكن الزمن بالنسبة إليه لا يعني شيئاً، فيبدّد نهاره وشطراً طويلاً من ليله في شؤون توحّدُ بينها صفات العطالة بمعناها الفيزيائي وببعض من معانيها المعجمية والشعبية.