ثقافةصحيفة البعث

العين والماء والفخار في التراث الساحلي الريفي

 

يمثل هذا الكتاب وثيقة مهمة تصون تراثنا الشعبي وتحفظه وتجعله حياً ماثلاً في وجدان الأجيال وعلى وجه الدهر، “العين والماء والفخار” عنوان لثلاثة كتب في كتاب ترتبط المسميات ببعضها بشكل من الأشكال، في كتاب المؤلفة فريال سليمة الشويكي مقيّدات تراثية توثّق نبعة الماء ووسائل نقله وحفظه في ريفنا الساحلي وما رافق أعمال الاستقاء من النبعة من أشعار شعبية وأهازيج وحكايات وأخبار العشاق وغنج الصبايا اللواتي يملأن جرارهن وتطرب آذانهن مما يسمعن من بديع القول.

“الكاميرا”
العين في التراث وما قيل فيها من أوصاف كثيرة وأغان تغنت بها كانت موضوع الكتاب الأول في هذا المؤلف: “العين” تتجلى الرابطة بين عين الإنسان وعين الماء، بأن عين الإنسان بكل روعتها وجمالها وقيمتها، بوصفها عضواً يسمو فوق كل أعضاء الجسم البشري، هذا العضو أخذ اسمه من عين الماء، ومن كل ما نبع من صدر الأرض فهو نعمة للبشر ومصدر لرزقهم.
عين الإنسان يهل منها الدمع المالح في حالتيّ الحزن والفرح، لا يسقي أحداً ولا ينبت شوكة أو ورداً، ولكن يظل لهذه العين “الكاميرا” البشرية الربانية الجاهزة لالتقاط صور الحياة، مملكتها التي تربعت عليها، وأنجبت سحر نظراتها آلاف المعاني، وترنمت باسمها الأغاني، وملأ وصفها الأمثال وكانت عنواناً وهوية للحسن لها قوسها الذي حوى تقلبات نظراتها العجيبة من حب وكره ودهشة وقبول حتى شبّهت بالكهرباء حين تخترق قلوب المحبين.

“الماء”
بحث معمق كلف المؤلفة الكثير من المجهود والتنقل بين أرجاء الريف كي يحمل ما قدمته الفائدة فجاء الكتاب الثاني: “الماء”. كل مصدر للماء يحيا به الإنسان من عيون وينابيع وآبار وأنهار وسواق جميعها بمنزلة عيون للأرض، بنيّات المطر سليلات السماء والغيوم تربوا في حجر الأرض الحنون الدافئ الأمين وديعة غالية لبني البشر، شقيقات مهنتهن الكرم والعطاء.
عين الماء ليس لها لغة الإنسان وآدابها وفنونها، ولكنها تسقي من شاءت وتغسل الأيدي المتعبة التي يخصبها التراب متى شاءت وتسير بحرية إلى حيث شاءت، فتمنح الحياة والخضرة وتسري في العروق فتبدي على الخدود ورداً يذكّر بالشباب والصبايا.
فالماء في التراث وما قيل فيه، حمل كل نبع عين بئر أو نهر اسماً وهوية تميزه تقديراً لعظمته ولتلك الأماكن الساحرة التي كانت تجمع المحبين فتنطلق مشاعرهم الرقيقة تصفها وتتغنى بها، حاولت فريال الشويكي إلقاء الضوء على ما تركه الناس لنا من أمثال وتشبيهات وأقوال تُعظّم وترفع من قدر الماء بالتراث.

“الفخار”
وقد وصل إلينا الفخار بأشكاله عبر المقولات والأمثال والأغاني التي ذكرتها في عنوان الكتاب الثالث.
الفخار: الماء الغالي قوام حياة الإنسان بعد الهواء ما كان ليتوفر لديه منذ قديم الزمان إلا إذا جاور مصدر المياه لأنه لم يكن يملك الآنية التي تحفظه لوقت الحاجة، كان من المستحيل على الإنسان أن يحمل الماء براحتيه كي يبلغ مكان سكناه في مغارة أو كهف حيث يتقي أذى وحوش البرية التي ترد الماء مثله، ومما لا شك فيه أن الإنسان في بدايته جرّب وسلك كل السبل كي يحفظ الماء في متناول يده فربما نقله في حجر مجوف أو أوراق شجر عريضة أو جلد حيوان، ولكنها جميعها لم تُغنه أو تشفي غليله فحاجته إلى الماء ماسة، وهكذا كان لابد له من عمل أو صنع شيء يحقق مبتغاه فكانت تجاربه التي لا تحصى والتي أخذت زمناً طويلاً من عمر الإنسانية أو صلته بعد عناء إلى صناعة الفخار، تلك المادة التي لم تولد في زمن واحد ولكنها وضعته في النهاية عند نقطة الفوز وكللت سعيه بالنجاح وغدت شربة الماء الغالية ملك يديه في الليل والنهار.
وتضيف المؤلفة: “بما أن الفخار من مواد الطبيعة التي لا تحتاج إلى تنقيب وكثرة جهد فقد تطورت صناعته التي تعود إلى الألف السابع قبل الميلاد وكان المنتج أدوات حفظ الماء والطبخ والدمى الصغيرة التي كانت تمثل المعبودة عشتار وتوابيت تحفظ أجساد الأطفال وكذلك الأنابيب الفخارية التي تتداخل مع بعضها بشكل محكم لتوصيل الماء من منبعه إلى حيث يحتاج الإنسان، لقد ظلت بقاياه العظيمة شاهداً على روعة الفخار وقيمته في منطقتنا حتى أزالت الجرافات من مكان جامعة تشرين تلك البقايا المطمورة في الأرض خلف منزلنا هناك قبل أن يغدو أرضاً للجامعة”.
جمان بركات