إما نحن.. وإما هم…
يشكّل الحراك الشعبي الذي شهدته تونس احتجاجاً على التطبيع السياحي مع “إسرائيل”، أنموذجاً لمحاربة التطبيع بأشكاله المختلفة في معظم الدول العربية التي تمارسه في العلن أو السر.
ومن المعلوم أن التطبيع ليس مسألة شكلية، كما يحاول البعض تصويرها والتقليل من خطورتها، بل هي مسألة مصيرية شديدة الخطورة، لأنها تمثّل الطريق الناعم للقبول بالكيان الصهيوني المحتل، مما يعني، بكل بساطة، تصفية القضية الفلسطينية، ولهذا ليس غريباً أن نرى وتائر التطبيع تتسارع في الآونة الأخيرة نظراً لأنه يُسهّل تمرير صفقة القرن التي تسعى أمريكا لفرضها على العرب بكل وسائل الترغيب والترهيب الممكنة. والمعلوم أيضاً أن التطبيع الممنوع ليس هو فقط التطبيع السياسي والديبلوماسي، وأن الأنظمة العربية التي تتباهى بأنها لا تقيم علاقات ديبلوماسية مع “إسرائيل”، بينما هي تقيم معها علاقات تجارية، أو تفتح أبوابها للسيّاح الصهاينة، لا تختلف في شيء عن تلك التي يربطها بالعدو تطبيع سياسي.
فالتطبيع تطبيع، أياً كانت طبيعته، لأن له في النهاية هدفاً واحداً هو نسف المرتكزات الثقافية والنفسية والسياسية لرفض الكيان الصهيوني المحتل ولمقاومته..
في العادة يحدث التطبيع بين الدول المتصارعة بعد أن يتم التوصّل إلى سلام عادل بينها يحصل بموجبه صاحب الحق المغتصَب على حقه كاملاً، أما قبل عودة الحقوق كاملة لأصحابها، فإن أي شكل من أشكال التطبيع يندرج في خانة الاستسلام والتفريط والتنازل عن الحقوق، وهو في هذه الحالة عار ما بعده عار، وذل ما بعده ذل.
فماذا فعل كيان العدو حتى يستحق جائزة التطبيع معه؟ هل أعاد الأرض العربية المغتصبة إلى أصحابها؟، وهل أظهرت أفعاله وتظهر ما يدلّ على أنه يمكن أن يفعل ذلك؟!.
ما نشهده على أرض الواقع هو إصراره على الاستمرار في الاحتلال، بل وفي توسيع رقعة الاستيطان، وتهويد الأرض، ورفض أي حل سياسي عادل وشامل للصراع، بل وإجبار أصحاب الأرض الحقيقيين على التنازل عن أرضهم وحقوقهم.. والسبب في ذلك يكمن في الطبيعة الوجودية والمصيرية للصراع العربي الصهيوني. ذلك أن “إسرائيل” لمن ينسى أو يتناسى ليست مكوناً أصلياً من مكونات المنطقة، وليست دولة تتمتع بشرعية الوجود التاريخي والثقافي، بل هي كيان مصطنع، حتى وإن حصلت على الشرعية الدولية، والكل يعرف كيف أُعطيت هذه الشرعية؟. “إسرائيل” كيان مزروع بقوة الاستعمار والإرهاب في قلب الوطن العربي، وهي تحتل فلسطين والجولان ومزارع شبعا، أي أن وجودها كله وجود احتلالي غير شرعي. ولذا فإن أي حل عادل تُعاد بموجبه الأرض المحتلة لأصحابها طوعاً أو بالإكراه يعني بالضرورة نهايتها، وهذا هو معنى الصراع الوجودي معها، فإما هي وإما نحن، وكل حديث عن حلّ الدولتين هو من قبيل ذرّ الرماد في العيون، لأنه يناقض الحق أولاً، ولأنه غير ممكن واقعياً بعد أن استولت “إسرائيل” على معظم الضفة الغربية ثانياً.
من هنا فإن القول بأن الصراع مع “اسرائيل” هو صراع وجودي ليس من قبيل المبالغة، ولا من قبيل الخطابة الإنشائية، بل هو جوهر الحقيقة التي ما انفكت الأحداث المتلاحقة، وآخرها الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبالسيادة الإسرائيلية على الجولان العربي السوري المحتل…
ومن هنا أيضاً فإن التطبيع، أي نوع من التطبيع مع هذا الكيان هو جائزة ثمينة له تزيده تشجيعاً على المضي في مشروعه التاريخي المعادي جذرياً للمشروع العروبي.
ولذلك قلنا: إن ما حدث في تونس من نهوض شعبي عارم ضد التطبيع السياحي مع “إسرائيل” يجب أن يشمل معظم الدول العربية، لأنه يعني أن الصراع مستمر إلى أن يتم استئصال السرطان الصهيوني من الجسد العربي، وأن أي تطبيع مع عدوّ الأمة هو خيانة عظمى لن يغفرها الشعب العربي مهما حاولوا تجميل هذا التطبيع وتغليفه، على طريقة مؤتمر المنامة، بالذهب اللمّاع..
إما نحن وإما هم.. هذه هي المعادلة التي تؤمن بها شعوبنا حتى وإن تجاهلها عبيد ترامب، وحلفاء نتنياهو، من الحكام العرب الخانعين.
محمد كنايسي