رغم حالة الاستنفار حماية الآثار.. تقصير في تنفيذ القوانين وتحييد للجهات المعنية!
نحزن ونحن نستعرض الخلل الكبير الذي يحيط بثروتنا الأقوى والأوحد التي تمثّل حضارتنا وهويتنا، ألا وهي آثارنا، فالمدن التراثية الأقدم في تاريخ الحضارة تمتلك سورية خمسة من أصل الأقدم منها، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على عمقها الحضاري والتاريخي والأثري!.
ماذا فعلنا لآثارنا في زمن حرب ضروس لم تمر على دولة في العالم كله؟ وماذا نفعل الآن لحماية الباقي من آثارنا وعمراننا وهو كثير؟ هل تعمل مديرية الآثار وفق الهدف الأول الذي يعني أنها معنية بحماية هذا الإرث والمتحف الحي والأزلي؟!.
للأسف خلال الحرب بدلاً من استنفار جهود المديرية ووزارة الثقافة باتجاه حماية الآثار، وزيادة مخصصات الترميم، والعمل على ردم الفجوة بنقص الكادر والفنيين، ووضع خطط لإنقاذ الآثار المهددة والمنازل المتداعية، تستنفر المؤسسة إعلامياً، وتجري نشاطات وندوات، وإن كنا نحتاجها لكنها ليست الأساس حول المتاحف، والحفاظ على مدننا ومنازلنا الأثرية التي تتداعى بحجة نقص الأموال للترميم، ونجد الأموال تصرف لترميم مكاتب إدارية، وفي حين تغيب سيارات الخدمة، ولا تتوفر للأعمال المطلوبة، تتواجد لإداريينا أحدث السيارات!.
نحن في أزمة أليس كذلك؟وهذا يتطلب منا العمل على تقليص الصرفيات الإدارية والشكلية، وزيادة المصروفات على الجانب الفني والعملي.
لنتابع معاً
للأسف في متابعة كتب المراسلات تتوضح لدينا صورة إهمال واضح يؤكد شكلية التعامل مع محور أساسي ومركزي يتعلق بالآثار والهوية، ولعل أبرز ما نطلبه ونحتاجه على الأقل معالجة وضع مدينتي حلب ودمشق من الناحية الأثرية، وتهدم العمران بسبب الحرب متبوعاً بالإهمال الإداري الذي تتخلله أيادي الفاسدين العقاريين الذين يطمعون بعمران الأراضي فقط غير مهتمين لا بتاريخ، ولا بهوية، ولا بعمران قديم!.
هي سوق مفتوحة لكسب الأراضي، ولا عين، ولا رقيب يتابع، وكل المسؤولية تنحصر بمراسلات ورقية لا من يتابعها على أرض الواقع!.
وبتتابع تسلسلي مدروس تم هدم آثار معينة، ورفع تسجيل مبان أثرية، وهدمها لاحقاً، وإشادة عمران مخالف بشكل جريء وفاضح في حارة الزيتون في دمشق، ونسأل الآثار في أدنى حالات المسؤولية: هل يعقل أن يكون هناك مراقبون فقط في دمشق، ولا أدوات تساعد على التدخل والمتابعة، وفي حلب هناك أربعة مراقبين فقط بلا أية مساعدات؟!.
ونسأل: ما الذي يجبر موظفاً على التنقل سيراً على قدميه أو على دراجة نارية تتبعاً لموقع أثري يتهاوى، ولا مكافآت، ولا تعويضات؟! من يقف بوجه المخالفات في هذه الحالة المؤسفة، في حين يرفل من يغطي المخالفة بنعيم التنقل المريح، وتلبية كل احتياجاته؟!.
لماذا نحن في ظل هذه الأزمة التي تتطلب ضغط المصروفات، ومنح أبسط الحقوق التي تكفل الحفاظ على حقوق الوطن التراثية كحد أدنى، ولا تتوفر أية خطط أو متابعة لوضع الآثار بحجة نقص المصاريف، في حين يتم تجديد مكاتب إدارية بملايين الليرات تحت مسميات وحجج مختلفة؟!.
مشاكل وروتين قاتل لآثارنا
المشكلة قائمة من المديرين السابقين الذين كانوا في ذروة الأزمة يتابعون ويرسلون كتباً، فالدكتور مأمون عبد الكريم أكد في كتابه رقم 3935/5 تاريخ 14/8/2017 على المخالفات الكبيرة التي تبلغ 67% من الرخص الممنوحة لترميم مبان أثرية في محافظة حلب، ويصدر تعاميم مختلفة تخص هذا الجانب، ويسأل: لماذا التقصير في الإشراف على الرخص الممنوحة، واتخاذ الإجراءات القانونية بحق المخالفين، مؤكداً على شرح أسباب التقصير، وبيان الإجراءات المطلوبة لحماية المباني خلال مدة أقصاها أسبوع من صدور الكتاب تاريخ 7/8/2017، وفي هذا الكتاب أيضاً وجّه الدكتور مأمون كتاباً إلى مديرية آثار حلب يطلب منهم معرفة التوصيات الضرورية لأعمال الترميم التي تم من خلالها إعطاء موافقات لترميم أبنية أثرية في حلب القديمة من النافذة الواحدة في المحافظة دون الرجوع إلى مديرية الآثار، وأكد في كتاب آخر على أن الموافقات تعطى لترميم بسيط عبر النافذة الواحدة، مطالباً بالتقيد بالتعاميم الصادرة بهذا الخصوص، وتزويد مديرية المباني بنسخة من هذه الرخص؟!.
وبتاريخ 8/8/2017 أكد على ضرورة تشكيل فرق عمل تتوزع على مناطق حلب للإشراف على الرخص الممنوحة لاتخاذ الإجراءات القانونية بحق المخالفين، وتم إعطاء أرقام هواتف وفاكس وبريد الكتروني لكل من يرغب بالتواصل مع المديرية فيما يخص المباني التاريخية والتوثيق الأثري والتعديات الحاصلة على المواقع الأثرية، ولكن لم يتابع، هل أتت مراسلات للرد؟ وهل التزمت المديريات؟!.
الدكتور محمود حمود تابع التأكيد على أن أغلب المديريات ودوائر الآثار لم تتقيد بالتعاميم الخاصة بالكشف عن المخالفات ونوعها، ويطلب بالسرعة القصوى تزويد مديرية المباني والتوثيق الأثري بقائمة المخالفات التي طالت المواقع والمباني الأثرية، والإجراءات المتخذة من قبل مديريات الآثار، وإرسالها إلى مديرية المباني مع الإجراءات المتخذة، وتبعت ذلك تعاميم كثيرة، منها: 4/ و /5/و.
أدلة وحجج تؤكد المشكلة
مديرية آثار حلب تشكو قلة المراقبين، فهل هذا واقعي؟ للأسف لا، لأن الجواب كان رداً على ذلك، إذ أرسلت مديرية الآثار والمتاحف كتاباً برقم 228/ تاريخ 22/3/2018 يؤكد على وجود عاملين في مديرية آثار حلب: /53/ فئة أولى، /31/ فئة ثانية، /5/ فئة ثالثة، /3/ فئة رابعة، /126/ فئة خامسة، و /12/ عاملاً مؤقتاً، ويستغرب الكتاب وجود مراقبين اثنين لكامل المدينة، ويطالب بالمهام الموكلة للعاملين، وإعادة توزيع العمل بما يتناسب والمدينة القديمة.
إغلاق يتطلب تقوية الآثار
لدى الكشف على الرخص الممنوحة لأعمال الترميم تبيّن أن الأعمال الممنوحة للترميم ستؤدي إلى خسارة ما تبقى من المدينة القديمة، ولذلك اقترحت مديرية المباني ضرورة وجود خطة إدارة موقع في ظل المخاطر، وتوثيق الأضرار بشكل علمي ومنهجي، وإدارة الركام، ودرء الخطر عن البنية التحتية، وأكدت على ضرورة وجود وحدة استشارية لمنح التراخيص، وتوثيق الوضع الراهن، وتقديم المخططات بالصورة اللازمة!!.. فوجود 67% من الرخص مخالفة أمر كارثي، وسيساهم بتدهور المدينة القديمة، مع التأكيد على إيقاف الترخيص من النافذة الواحدة، والعمل على التفكير بمنهجية علمية لمنح الرخص ومتابعتها، وإشراف وحدة استشارية على تنفيذها، ومع الغياب التام لمديرية آثار حلب أثناء تنفيذ الرخص، لذلك توجب إحالة هذه المخالفة إلى الجهات الرقابية.
كتب ومراسلات ولكن أين الإجابة؟
لم يُحل الملف إلى الرقابة، ولم تعالج المشكلات حتى بالحدود الدنيا رغم تغيير الإدارة في مديرية آثار حلب؟!.
هل تُترك أذرع التخريب نشطة؟.. إن أذرع التخريب مازالت تمد يدها طولاً وعرضاً تشحذ معاول الهدم، وتسرع منها تنفيذ القرارات، تارة تشد عزيمتها أحكام قضائية، وتارة أخرى تستند إلى الإهمال والتقاعس الذي لا يحمل سمة المتابعة والتدقيق والمثابرة من المديرية التي تكتفي بإصدار تعاميم ؟! للأسف لا تسأل ماذا حصل لها؟ أين الردود؟ هل يعقل ألا يوجد لدينا استشاريون، ولا مختصون في الآثار، ولا جامعات تجري دراسات وتتعاون في هذا المجال؟! هل نبقى متكئين على الهش والضعيف دون سند يقوي دعائمه، ونكتفي بالندوات والإعلام يرصد غلافاً يغطي كوارث في الإهمال، وتهديداً واقعاً يؤكد ضعف تقييم مبانينا الأثرية، وقيمتها التاريخية، وغنانا الأثري الذي لا مثيل له في أي بلد في العالم؟ هل وثقنا القرى الطينية ومبانيها المهملة التي تتداعى وهي تصلح لكي تكون مقصداً سياحياً بامتياز؟ هل دافعنا عن المباني الأثرية، واستثمار بيت التراث في دمشق للتصوير، ورمي كنوزه الأثرية على الأرض خير شاهد على ضعفنا وقصر نظرنا، وتقديرنا الضعيف لهذه المباني التي يشكّل ترميمها وإحياؤها مقاصد سياحية بامتياز؟!.. نحن لا نملك حقاً لاستثمار خان أسعد باشا وغرفه الجميلة التي كانت غرف خان قل مثيله وباتت مخازن لمستودعات وأوراق مهملة، وحماماته خير مثال على تطلع البعض لقيمة المناقصة دون الاهتمام بالتنفيذ الجيد، وقيمة الأثر؟!.
يكفينا أن مبنى يشاد على ارتفاع سبعة طوابق، ثلاثة منها تحت الأرض وعلى مساحة واسعة في حارة الزيتون، رغم أنه تم ختمه، يضاف له طابق أخير مختوم ولم تعالج مشكلته رغم مخالفته لكل أنظمة العمران الخاصة بدمشق القديمة، لماذا نحن غير حازمين فيما يخص تراثنا، وهو السمة الأقوى في هويتنا؟! لماذا نترك قوى فساد وظلام وإدارات ضعيفة تساعد على تخريبه؟! ليس من حقكم أبداً إهمال ما يحدث في أهم مدن مسجلة على لائحة التراث الإنساني، ويجب رفع المخالفات الموجودة إلى الجهات الرقابية المعنية لفتح الملف الأهم والأجدى بالحماية وهو تراث سورية.
ولا ننسى ما حدث من إهمال في قلعة حلب، وطريقة حرق الأعشاب، وهل تتناسب ومبنى مثل قلعة حلب؟! ولا يخفى فتح ملف الاستثمار في محيط القلعة وجوارها الملاصق، وكيف يتم ذلك؟!.
واجب مديرية الآثار وضع الخطط والإشراف على التنفيذ، لا أن تكون وجوداً هيكلياً فقط وآثارنا تتداعى، لن يسامح التاريخ والأجيال من قام ويقوم ويساهم بتداعي الآثار في دمشق وحلب خاصة، وفي كل سورية، لن يشفع لكم أبداً هذا الإهمال.
نذكر المديرية أخيراً بوضع القطع الأثرية التي لا تقدر بثمن، والتي كانت ستشارك بمعرض بالصين، كيف ترمى في مطار بيروت دون مرافقة كما هو متبع في نقل الآثار، هل وصلنا إلى هذا الحد من الاستهتار، ليحقق في هذه القضية، ويحدد المسؤول، فآثارنا ملك الوطن والأجيال، وستسألون عن الاستهتار بها بهذا الشكل المهين!.
لن نحمّل مسؤولية تدهور الآثار للحرب فقط، إنها أعمالنا واستهتارنا، لنطالب كل مديرية بما تحتويه من إمكانيات للحفظ والمراقبة والتنقل، وعدم الإهمال، وفقدان الحماس لحماية الأثر، والاكتفاء بالورقيات، وعدم المتابعة ما يؤدي للخروج بنتائج مخجلة لا تتناسب مع موقع سورية حضارياً وأثرياً.
ابتسام المغربي
مقال جامع مانع لمشكلة متشعبة متعددة الجوانب وتحتاج لتركيز في كل مجال على حده. لاشك ان الارث الحضاري هو اهم الموارد الوطنية بسورية والتي تتميز بازدياد قيمتها مع الزمن دون ان تمتد اليها ايادي الانسان بما يعلن او يعتقد انه يطورها بينما هو يسيء الى قيمتها الأثرية. ومن التجارب السابقة مع الجهات المحلية والدولية ، من دمشق القديمة الى حلب و تدمر و بصرى و دورا اوروبوس وغيرها ، خبرنا هذه التناقضات و الحديث يطول. المهم اننا الان بوضعية خطيرة تتطلب إعلان حالة طوارئ قصوى ولكن…ما لم يتم تسليم المهام الى اياد نظيفة و وضع اسس تطبيقية للمتابعة والمراقبة والمحاسبة من قبل جهات موثوقة، فكل الدراسات والتنظير سيكون بلا نتيجة، المفتاح هو في توفير النوعية اولا وليس فقط الكمية بكوادر العناصر المسؤولة عن حماية الاثار فالتحديات والمغريات اكبر من ان يتحملها موظفون عاديون بل تحتاج الى عناصر لديها هاجس الحفاظ على موارد الوطن بحرفية وليس بالشعارات. و رحم الله شهيد تدمر كم كان يروي لنا من الهواجس و التعديات حتى من ممارسات الجهات الرسمية، وللحديث تتمات نظرية و تطبيقية.