إعلامنا.. ومكاشفات ضرورية
ربما قطع السيد وزير الإعلام الخطوة الرسمية الأولى في طريق حل مشاكل الإعلام السوري حين اعترف بالفجوة الواضحة بينه وبين المتلقي، والأهم حين وضع مسؤولية هذه الفجوة على الإعلام الذي “ابتعد عن المواطن وعن مشاكله وآلامه”.
والحال فإن هذا “الابتعاد” هو جوهر المشكلة وأسها، لكنه، وهذا الأهم والأخطر، فاتحة مثلى لمشاكل، بل مآس، أخرى، لأن “الفجوة” التي أنتجها كان لا بد، بطبيعة الأمور، أن يملأها طرف آخر، وهو طرف كان من الواضح أنه جاهز، ومجهَّز منذ زمن، لمهمة “خلق إدراك وهمي للعالم الحقيقي”، بعبارة عالم الاجتماع الفرنسي “بيير بورديو”، عبر كسب العقول والهيمنة عليها واحتلالها، بالمعنى الحرفي للكلمة، وهو احتلال أصبح، في عالم اليوم، بديلاً معتمداً عن الاحتلال المباشر، وهو يتمّ عبر بث مكثّف ومتواصل لكم هائل من “المعلومات” الجاهزة والموجّهة بهدف قلب حقائق وبناء أخرى، الأمر الذي سيسمح للمرسل، كمرحلة أولى، بتكوين شخصية الإنسان وصياغة أفكاره ومفاهيمه وقيمه الوطنية والأخلاقية، لينتقل في المرحلة الثانية إلى قيادة الجموع، وهي “راغبة” في الاتجاه الذي يريده، وبالتالي تحقيق مصالح “المرسل” دون أن يخسر دماء أو عتاداً، ودون أن يستثير حمية ومقاومة من يعتقد أن لا احتلال إلا الاحتلال المادي الفج والمباشر.
وهذا بالتحديد ما اختبرناه بدمائنا خلال الفترة الماضية، وكان، إلى جانب عوامل أخرى لا مجال لنكران دورها وتأثيرها، عاملاً أساسياً في إطالة أمد الأزمة واستفحالها، وفي ترسيخ مفاهيم و”حقائق” سنحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير و”أسلحة” متعددة لتجاوزها، “أسلحة” يبدو الإعلام، مرة جديدة، أمضاها وأقواها، بشرط الاعتراف بأمراضه أولاً، والعمل على معالجتها ثانياً.
وبالطبع فإن الأغلبية تجمع على أن أسباب “الفشل” تسبق زمنياً الحرب الدائرة في سورية وعليها، ويأتي على رأسها اعتبار الإعلام إعلام حكومة لا مواطن، وكانت النتيجة الأولى لذلك اعتماد سياسة التغطية لا النقد والكشف، وكان من نتاجها “الطبيعي” تزايد المحسوبيات والشللية وعمليات “تطفيش” الكوادر المهنية – التي ما أن تخرج من هذا الجو الطارد والنابذ حتى تبدع – وهو ما أوصلنا سريعاً إلى غياب القدرة على اتخاذ القرار المناسب في اللحظة المناسبة للتعامل مع المستجدات إعلامياً كما يفترض، أو عدم المبادرة، رغم وجود الإمكانية، لاتخاذ هذه القرارات نتيجة إرث ثقيل من انتظار الأوامر “من فوق”.. لنجد أنفسنا أمام إعلام لا تتناسب طبيعة خطابه مع أجيال جديدة وعصر جديد، لا من حيث الصورة ولا اللغة ولا المفردات، ولا حتى لغة الجسد، إعلام يفتقد إلى العقلية القادرة على صوغ رسالة إعلامية مقنعة لأصحابه والعاملين فيه قبل غيرهم من المتلقين.
أما الحلول فواضحة أيضاً، ولا تحتاج لخبراء و”حملات تلفزيونية”، فأولاً يجب الإقرار بأن الإعلام صناعة متكاملة بكل معنى الكلمة، صناعة تتحكم فيها أخلاق السياسة لا سياسة الأخلاق، ويتطلب نجاحها، كأي صناعة أخرى، موارد مالية كافية للقيام بخطوات متتالية ومتكاملة لجذب المشاهد أولاً وقولبته لاحقاً، وثانياً التعامل مع المتلقي على أنه بالغ راشد يعرف بالحدث فور وقوعه من وسائل الإعلام البديل، وبالتالي لا يفيد “الإنكار” سوى في توسيع الهوة معه، وثالثاً، وهو الأهم، الإيمان بأنه لا يمكن فصل تطوير الإعلام عن تطوير الإعلامي، مهنياً ومادياً، فهو يجب أن يكون آمناً في ماله وحياته و”حريته” في النقد والكشف، وأن تتقلّص الخطوط الحمراء أمامه لا أن تتزايد، وفق ما فعله قانون الجرائم الالكترونية الأخير، وأن تخف التوجيهات والتدخلات العليا، أي أن يثق به المسؤول أولاً كي يثق به المواطن ثانياً، وبذلك يكون لدينا إعلام وطنٍ ومواطن، كما نريد ويريد كل سوري مؤمن بهذا الوطن.
خلاصة القول، ما تقدّم به السيد الوزير من أفكار ووعود هو خطوة هامة وضرورية، لكنها ستبقى ناقصة، ومحبطة، إن لم تجد طريقها إلى التنفيذ، خاصة وأن تجربة، ووعود، “المجلس الوطني للإعلام” مازالت ماثلة أمامنا.
أحمد حسن