في زمن “السلطة الخامسة”
يغرق النقاش الإعلامي السوري حالياً بين “قبول” أو “رفض” ما اصطلح على تسميته بـ”الإعلام الجديد” المتمثل تقنياً في وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات، وهو في الغالب “غرق” غير مبرر لكونه نقاشاً يركّز فقط على الأشكال دون تمييز واضح بين “المحتوى” و”الأداة”، رغم أن الممارسة الإعلامية في جوهرها تقوم على التوظيف الأداتي لنقل محتوى يستند في أساسه على نظرية “الاستخدامات والإشباعات” في الحياة الإنسانية.
وبالإشارة إلى مفهوم مونتسكيو حول “سلطات العالم الثلاث” (التنفيذية والتشريعية والقضائية) ومن ثم الطروحات التي تحدثت عن نشوء “السلطة الرابعة”، المتمثلة في الإعلام التقليدي، فإن البحث الأكاديمي اليوم قد تجاوز النقاش في ماهية السلطات الأربع وتمايزاتها، وصولاً إلى البحث في طبيعة سلطة جديدة ناشئة ومفاعليها في العقل الفردي والجمعي.
ويدلل أكاديميون من أمثال البريطانيان كارين فولر- وات وستيوارت ألان، عبر هذا المصطلح بالتحديد، على بزوغ ما يصفه بعض المعلقين بـ”السلطة الخامسة”، والمقصود بها هو “اتجاه جديد في صناعة المادة الإعلامية، يقوم على المواطن (ويسمى إعلامياً بـ”صحافة المواطن”) التي تكمّل – وفي بعض الأحيان تستبدل – دور وسائل الإعلام التقليدية الكبرى في تغطية الأخبار العاجلة”.
فالمقصود بـ”السلطة الخامسة” هنا هو “فضاء التدوين الالكتروني” الذي أصبح ذا تأثير عميق وظاهر في بنى المجتمعات والعلاقات بين الأفراد والمؤسسات، وبالتالي في رسم السياسات العامة (الداخلية والخارجية) لأية دولة من الدول.
أدوات هذه “السلطة الخامسة” تنفرد بخصائص جعلتها تتفوق على الوسائل التقليدية في عدد من الجزئيات، من خلال اعتمادها على وسائل التواصل الاجتماعي، وتوظيف كل ما تقدّمه الابتكارات التكنولوجية من أدوات وتطبيقات. الأمر الذي وضع وسائل الإعلام التقليدية ومعاييرها الصحفية في التغطية الإعلامية أمام أسئلة معقدة، تتعلق بطبيعة الوسيلة الإعلامية ذاتها، وفي محتواها، وفي معايير الصحافة التقليدية برمتها، وكذلك في الشرائح الاجتماعية التي تستهدفها بالرسالة الإعلامية.
هذا الواقع المستجد، دفع بالكثير من وسائل الإعلام الكبرى في العالم إلى احتضان وسائل التواصل الحديثة، وأدواتها ومفرداتها، بهدف المحافظة على الحضور في المشهد الإعلامي، والتأثير في الرأي العام، ولا يرتبط الأمر هنا في “شكل” الوسيلة الإعلامية فقط، بل أيضاً في تطوير “المحتوى”، وصولاً إلى تفاصيل أكثر دقة وحساسية في الرسالة الإعلامية، وهي طريقة استخدام “المفردة” و”السياق” اللغويين وصولاً إلى توظيف “الوسوم” في تشكيل المزاج العام.
فبث رسالة إعلامية “إنشائية وخطابية” أو اختزالها إلى “تغطية فخرية” سيكون قاتلاً مهما كانت الوسيلة الإعلامية التي تبثها، سواء كانت تلفزيوناً أو صحيفة أو صفحة تواصل اجتماعي، في حين أن اعتماد معيار “الجدوى المعرفية” في الرسالة الإعلامية يرفع من قيمتها بغض النظر عن طبيعة الوسيلة التي تبثها، تقليدية أو “جديدة”.
الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان صاحب نظرية “الحتمية التكنولوجية” يرى بأن “كل حقبة زمنية كبرى في التاريخ تستمد شخصيتها المميزة من الوسيلة الإعلامية المتاحة فيها على نطاق واسع”، وإن كنا هنا لسنا في سياق تبني نظريته بالكامل، إلا أن مثل هذا الطرح يستدعي التأمل طويلاً في سمات عصرنا الراهن، و”الوسائط” الإعلامية التي تمنحه شخصيته المميزة.
على سبيل المثال، يمكن لنا اليوم، وفي كل لحظة، مناقشة أي حدث وتوفير البث المباشر له على وسائل التواصل الاجتماعي حتى قبل وصول القنوات الإخبارية التقليدية لموقع الحدث، ما يجعل من تفاعل الجمهور اللحظي مع الأحداث مرتكزاً رئيسياً لنشاط هذه الوسائل الإعلامية، إضافة إلى إتاحتها لمساحة كبيرة لتبادل الآراء والتفاعل اللحظي، وبالتالي تحويل أي حدث وأية قضية إلى “رأي عام”.
فالتفاعلية والتواصلية هما الميزتان الأساسيتان لإعلام عصرنا الراهن، وهما ميزتان تضعان وسائل الإعلام التقليدية في مواجهة تحد صعب، في الشكل وفي المحتوى، وأمام الطوفان المعلوماتي الحاصل في كل أنحاء العالم، هل يبدو حصر النقاش الإعلامي في “الرفض” أو “القبول” مجدياً؟ لا يبدو الأمر كذلك.
إن التحدي الذي يواجهه “العقل” الإعلامي السوري، لا يكمن في شكل الوسيلة فقط، بل في المحتوى الذي يتم ضخه فيها وعبرها. أي مشكلة الرسالة الإعلامية، وإدراك التغيرات السلوكية والمعرفية للشرائح الاجتماعية المستهدفة بها.
وإذا كان المؤرخ البريطاني توماس ماكولاي قد لاحظ عام 1828 بأن “تلك القاعة التي يجلس فيها المراسلون الإخباريون قد تحولت إلى “سلطة رابعة” في الشأن العام”، فيمكن في العصر الحالي ملاحظة أن المواطنين العاديين و”المجموعات” المنخرطة في تقديم الخدمة الإخبارية يقدمون مؤشراً على نشوء “السلطة الخامسة” الساعية لتثبيت مكانها في المشهد الإعلامي مهما كان الثمن، والمواطنون الذين يمتلكون ذكاءً رقمياً، والعازمون على تقديم نماذج بديلة للتقارير الإخبارية، يقومون الآن بإعادة كتابة قواعد الصحافة دون توقف، ومعاً يقومون باستفزاز وإثارة وإلهام المؤسسات الإخبارية التقليدية لتأدية التزاماتها في تقديم الخدمة العامة.
والتصريحات التي تقول بأن “السلطة الرابعة” على حافة الانهيار أصبحت واسعة الانتشار، بوجود فرص كبيرة لازدهار أنواع جديدة وقوية من التقارير الإخبارية “الحية” في العصر الرقمي، وإن الحتميات الآخذة بتغيير ما يمكن اعتباره صحافة – ومن هو قادر على أن يكون صحفياً – تقدّم فرصاً لشراكات مهنية بين المواطنين والمؤسسات الإعلامية، يمكن لها أن تنجح في تحسين ديناميكيات التأثير الإعلامي في الشأن العام.
إياد ونوس