الجولان.. المقاومة تتعاظم
رغم كل الضبابية التي تلف المشهد العام في الشرق الأوسط، ورغم كل الآفاق والانسدادات والمستقبل الغامض المشرّع على كل الاحتمالات، إلا أن هناك حقيقة تزداد رسوخاً يوماً بعد يوم، ومفادها أن المنطقة العربية، والشرق الأسط عامة، يعيش مخاضاً عسيراً وطويلاً سوف ينهي قروناً من التبعية الحضارية والخضوع للسيطرة الأجنبية، السياسية والاقتصادية والثقافية، انطلاقاً من حقيقة وعيه الجديد لهويته واستقلاليته وخصوصيته، وبالتالي لطبيعة عبقريته وإضافته الحضارية الخاصة، وانطلاقاً أيضاً من إدراكه لحقيقة “الآخر” في عريه الأخلاقي والروحي، ولعل أكبر دليل على هذا الطرح هو أن هذا الشرق يعيش اليوم، دفعة واحدة، عذاباته كلها، وينكأ جراحاته كلها، ويغوص عميقاً في تقيحاته كلها، بتشابكاتها وتداخلاتها وامتداداتها، وبالعلاقة مع هذا “الآخر” المنافق والمدّعي والكاذب والمزيف.
مع ذلك، فإن هناك حقائق تصعد وتتبلور، وهناك بالمقابل وقائع تضمحل وتتراجع، ولعل مسألة عودة الأراضي العربية المحتلة، وفي مقدمتها الجولان العربي السوري، تبدو اليوم راسخة أكثر من أي وقت مضى، رغم كل مظاهر “خداع الجبروت” الأمريكي والإسرائيلي، ورغم كل تعبيرات “وهم القوة” المرسلة هنا وهناك؛ فالعالم، والشرق الأوسط منه، ليس، في النهاية، مسرحاً للعبث – كما يتهيّأ للبعض – وليس منصة للاستعراضات التمثيلية، بل هو حلبة لمراكمة عناصر القوة، على اختلاف أشكالها ومستوياتها، وهو ميدان لصراع الإرادات والأهداف والطموحات والاستراتيجيات والنوايا والخطط المعلنة والمبيتة.
هنا، وللوهلة الأولى، قد يبدو جنون ترامب، مثلاً، نوعاً من العناية الإلهية التي تهبط على “إسرائيل” بحكوماتها، أو نوعاً من هدية غير منتظرة، ولكن الحقيقة هي أن هدايا ترامب، سواء من خلال “صفقة القرن”، أو بالقدس عاصمة لـ “دولة” الاحتلال، أم من خلال “الاعتراف” بضم الجولان، لا يمكن أن تعكس إلا حقيقة أن “إسرائيل” سوف تختنق لا محالة بجوهر وجودها ككيان استيطاني، وأن عمليات الضم الجديدة ستكون صعبة الابتلاع والهضم، إن لم تكن مستحيلة، وأن استيطان عالم القرن الحادي والعشرين هو شكل من أشكال الانتحار الأمني والديموغرافي خاصة، ولا يمكن أن يقاس باستيطان القرنين التاسع عشر والعشرين الذي كان يسير جنباً إلى جنب مع الاستعمار الأوروبي لكل من آسيا وإفريقيا. إذ بات من العسير جداً ضم مجموعات بشرية كاملة، أو إخضاعها لسلطة أجنبية – إن لم نقل سلطة مُحتلة – هي أساساً سلطة قتل سياسي باتت عاجزة عن الاستمرار بالإبادة.
لقد تمّ تكريس الواقع الاحتلالي الإسرائيلي بفعل الدعم الغربي، الأوروبي والأمريكي المستمر، خاصة (الدعم السياسي والعسكري والمالي للاستيلاء الإسرائيلي على الأراضي العربية، في فلسطين والجولان وجنوب لبنان)، وبفعل اختلال موازين القوى والسلاح، واختلال النظام الدولي لفترة طويلة من الزمن، في ظل الحرب الباردة وبعدها الأحادية القطبية الأمريكية، ولكن هذا الدعم والاختلال لم يتمكّنا من جعل الاحتلال حقيقة مقبولة، أو راسخة، أو قابلة للاستمرار، وهو ما تشهد عليه مظاهر وفعاليات وأشكال المقاومة المتنامية والمتجذّرة مع تقدّم الزمن، فلا أحد يستطيع أن ينكر واقع أن رفض الاحتلال يتصاعد ويزداد قوة مع تعاقب الأجيال، وأن الأجيال الجديدة تتوالى أشد رفضاً وتجذّراً، وأن أساليب المقاومة والرفض تتعدّد وتتنوّع لتغدو أكثر معاصرة (وبالتالي أشد قوة وتأثيراً)، وهي تختبر أساليب المقاومة المدنية والمقاطعة والعصيانات والإضرابات، وحتى الأشكال المسلّحة، بل والأعقد تسليحاً وتطوّراً تكنولوجياً وسيبرانياً، علاوة على أسلحة الفقراء المتمثّلة خاصة بالمقاومة الديموغرافية التي تفعل فعلها باستمرار، بحيث لن تترك لمؤسسات الاحتلال أي مستقبل حتى في ظل دعاوى “الديموقراطية” بحد ذاتها، بمعنى أن الكيان الإسرائيلي سيبقى كياناً، وهو سيبقى محكوماً بإمكانية البقاء من خلال المزيد من التقوقع والانغلاق فقط، في وقت تعيش المجتمعات العربية مخاض انفتاحها وتفاعلها الندي مع العالم.
إن مستقبل الكيان الصهيوني معلّق على حقيقة أن الصراع العربي الإسرائيلي مازال راهناً وماثلاً كحقيقة سياسية ومعطى حضاري ثابت منذ بدايات القرن الماضي، وسيبقى كذلك إلى أن تُحل قضية الحقوق العربية، وفي مقدمتها قضية الشعب العربي الفلسطيني، وحقّه في العودة وتقرير المصير. أما إجراءات وخطوات التطبيع الجارية حالياً مع بعض الأنظمة العربية فهي لن تكون، في النهاية، إلا على حساب “إسرائيل”، كونها مصممة، أساساً، لخدمة أنظمة بالية متهالكة تتخبّط في محاولتها إنقاذ عروشها، وهي أعجز من أن تهيئ بيئة حاضنة لـ “إسرائيل” في المنطقة العربية.
أمس الأول، بدأ أهلنا في الجولان المحتل إضرابهم العام احتجاجاً على مخطط التوربينات الاستيطاني ورفضاً لتسمية إحدى الهضاب باسم ترامب.. بعد اثنين وخمسين عاماً، جذوة مقاومة الاحتلال لاتزال على قوتها، وتتعاظم.. الصراع كأنه بدأ أمس، وسوريّة الجولان حقيقة راهنة أكثر من أي وقت مضى.
بسام هاشم