السياسة والكذبة الطيبة
د. خلف المفتاح
تعتمد القوى الكبرى في رسم استراتيجياتها السياسية على رؤى يضعها مفكرون ومنظّرون وفلاسفة كبار، وهذا هو حال دولة بحجم الولايات المتحدة الأميركية، وعلى الرغم من كل ما يجري على سطح السياسة من سجالات وخلافات بين ترامب وبعض مراكز القوى، لكن ثمة حكومة عميقة تتحكّم بمجرى الأمور، سواء على مستوى القوى المالية “وول ستريت”، أو لجهة النخب الفكرية والفلسفة السياسية.
ففي الجوهر ترتكز السياسية الأميركية -على الرغم من الفلسفة البراغماتية التي تحكمها من حيث المبدأ- إلى فلسفة المفكّر والمنظّر للمحافظين الجدد الألماني ليو شتراوس، التي تعمل على إيجاد أيديولوجيا سياسية قادرة على قيادة العالم، وتحت مسمّى ما هو النظام السياسي الأفضل لقيادته؟!. وشتراوس هو المنظّر والأب الروحي لفلسفة المحافظين الجدّد، التي تمثّل الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية، ويرتكز في منهجيته السياسية إلى خلاصة فلسفات ثلاث: فلسفة أفلاطون وتلميذه أرسطو والفيلسوف العربي الإسلامي الفارابي، من خلال صياغة رؤية مركّبة من مضامين تلك الفلسفات، مضافاً إليها رؤية ليو شتراوس، القائمة على قاعدة أن السياسية العالمية في تحليلاتها ونهجها يجب أن تعتمد على التحليل العلمي للمواقف والمصالح، والابتعاد عن التحليل السياسي القائم على الاعتقاد، وعبر رؤية شفّافة ونقية وواضحة.
وفي مقال له بعنوان “ما هي الفلسفة السياسية التي تصلح لقيادة العالم”، يرى شتراوس: أنها تلك التي تستطيع أن تنهض بنظام سياسي يحكم العالم من خلال المعرفة الحقيقية لطبيعة العمل السياسي وطبيعة الأشياء، بدل التحليل السياسي الذي يعتمد على الرأي والاعتقاد، وأن الفلاسفة والمفكرين هم المخوّلون بذلك، لأنهم وحدهم من يحتكر الحقيقة، ووفق ذلك يرى شتراوس أن عالم السياسي يجب أن يتشكّل عبر ثلاثة مستويات: أولها: إن حسابات السياسي يجب أن تنصّب على كل ما جوهره سياسي، وذي طبيعة سياسية، ولا يقحم بالسياسة ما هو خارج نطاقها، وثانيها: إن حدود العمل السياسي هي ملعب السياسة، وثالثها: أن تكون نظرة السياسي متّسمة بالشمول والنظر لكل ما يجري في العالم من تطوّرات في كل الحقول، من اقتصاد وثقافة ودين ومعرفة، وهنا تكون السياسة علم ومعرفة، وهذا هو نهج المحافظين الجدد. وإلى جانب ذلك يجب أن تقوم السياسة على قاعدة “الكذبة الطيّبة والخداع”، وهذا ما فعلوه عند احتلالهم العراق، عبر رواية أسلحة الدمار الشامل، حيث استخدمت لغة الخداع الاستراتيجي، أو ما يمكن تسميته التضليل، إضافة إلى اتباع نهج دعم الأقليات لإضعاف الدول وتقسيمها، وإيجاد نافذة دخول عليها مجتمعياً. وهذا هو نهج شتراوس، تلميذ هايدغر، الذي يعتمد على الايزيتورية، وهي مفردة يونانية تعني الداخل، وتقوم وتتأسّس على الفردانية، أي النخبة أو نخبة النخبة، التي تمتلك المعرفة العميقة بالأشياء، وترى في العلماء والفلاسفة المؤهلين وحدهم لقيادة العالم بوصفهم العقول الفاعلة والعاقلة، وهذا ما يتقاطع، ويتماهى مع فكرة أفلاطون في مدينته الفاضلة.
ولعل أهم تجلّ لمدرسة ونهج شتراوس في طريقة التفكير والسلوك هو ديك تشيني وزير الدفاع الأميركي، ونائب الرئيس الأميركي السابق بوش الابن، الذي علّق على تصريح الرئيس أوباما في حملته الانتخابية بأنه سيغلق سجن غوانتانامو، الذي يستثمره تشيني بمبلغ يزيد على ثلاثمئة مليون دولار، وخدمات تزيد على سبعمئة مليون دولار يحصل عليها من الحكومة الفيدرالية الأميركية، علّق على ذلك بقوله: “من سيدفع لي ذلك المبلغ”؟!، فأجابه أوباما: لن نغلقه، ولكننا سننسحب من أفغانستان والعراق، فقال تشيني ضاحكاً: إذن من أين سنأتي بالزبائن؟!. وقد ذكر هذا السجال في كتاب لباحث أمريكي بعنوان “أوكار الشر”، كما يذكر الحادثة ديك تشيني نفسه في مذكراته، ولعل ذلك يفصح عن الكثير من الأشياء والأكاذيب التي تسوّقها الإدارات الأميركية، من ادعائها الحرب على الإرهاب ودعم الحريات والتمكين وتقرير المصير كذرائع وحجج ونوافذ للتدخل في شؤون الدول، كما جرى ويجري في الكثير من الدول منذ أكثر من عقدين من الزمن.
لقد انتهجت السياسية الأميركية خطاً زاوج بين البراغماتية النفعية والأيديولوجيا، وقدّمت أنموذجاً يبتعد كل البعد عن مبادئ ولسن في حق تقرير المصير، وما حمله تمثال الحرية من معانٍ، وكذلك ميثاق الأمم المتحدة، وكان لتلك السياسات الأثر السلبي والكارثي على العديد من شعوب العالم، ما ترك صورة سلبية عن الولايات المتحدة الأميركية في وعي تلك الشعوب لا يمكن محوها وإزالتها إن لم تعد الإدارات الأميركية المتعاقبة ومطابخ القرار فيها حساباتها، وتتخلّى عن نهج الهيمنة الذي تتبعه تجاه دول العالم وشعوبه، سيما وأن العالم يعيش إرهاصات أولى لنظام دولي جديد، يقوم على توازن المصالح والشراكة في قيادة الأسرة الدولية، وتبادل المنافع، والاستقرار عبر التنمية، وليس باستخدام فائض القوة الغاشمة.