تكلّم.. لأراك
د. نضال الصالح
منذ بدء الحرب على سورية إلى الآن صدرَ ما يزيد على مئتي كتاب، وأقيمَ ما يزيد على مئات الندوات والمحاضرات، التي عنيت جميعاً بهذه الحرب. وعلى الرغم من أهمية الكثير من تلك الكتب، ومن الكثير أيضاً من تلك الندوات والمحاضرات، ومن ضرورتها لكي تكون مراجع للباحثين الآن، وفي المستقبل، فإنّ ذلك كلّه لا يكفي لتقديم مادة معرفية عن الحرب، ولاسيما ما يعني الاجتماعي منها، أي الحرب، مهما يكن من أمر ما تتضمنه تلك الكتب والندوات والمحاضرات من قراءات وتحليلات في هذا المجال، أي الاجتماعي.
لا يكفي؟ أجل لا يكفي إذا لم يكن ثمة منجَز أدبيّ يمضي عميقاً في قلب المجتمع السوري، ويقدّم، على نحو غير مباشر، صوراً عن التحولات التي أصابت هذا المجتمع، وعمّا كان، وما يزال، يستهدف الوعي الذي اتسم به طوال تاريخه، والذي تتصدّره ثقافة حضارية دالّة على رقيّه الإنسانيّ، والتي من أبرز علاماتها كونه مجتمعاً عابراً للهويات ما تحت الوطنية.
صحيح أنّ الأدب، والفنّ عامة، ليس وثائق تاريخية، ولكن الصحيح أيضاً أنّه مرآة للواقع بمختلف أشكاله وتناقضاته، وربّما يكون هو الواقع وقد تمّ التعبير عنه من خلال الكتابة التي تنتمي إلى حقل الإبداع الأدبيّ، شعراً ورواية وقصة ومسرحية، ومن خلال الفنّ، مسرحاً وسينما وتشكيلاً ودراما تلفزيونية.
وصحيح أنّهما، الأدب والفن، لا يمكن الاعتداد بهما بشكل قطعيّ في قراءة هذه المرحلة أو تلك من التاريخ، ولكن الصحيح أيضاً أنّهما يحتضنان في داخلهما ما قد ينوب عن مئات، وربّما آلاف، الأبحاث والدراسات المعنية بهذه المرحلة أو تلك، أو بالكشف عن الجوهريّ فيها، بل المفاصل الأساسية المعبّرة عن حراكها وتحولاتها من جهة، وعمّا يمثّل استشرافاً لما بعدها من جهة ثانية.
والسؤال، وبعد ما يزيد على ثماني سنوات من الحرب، هو: هل تمكّن الأدباء والفنانون من تقديم أعمال إبداعية تُعنى بما حدث طوال تلك السنوات؟ ومن ثمّ هل كانت هذه الأعمال مرآة صادقة للواقع؟ وإلى أيّ حدّ يمكن القول معه إنها عبّرت عن الجوهري ممّا يعني المجتمع فيه؟
ما مِن ريب في أنّ ثمّة أعمالاً تمكّنت من ذلك، أدباً وفنّاً، ولكن ما مِن ريب في الوقت نفسه، في أنّ ثمة غير القليل ممّا لم تتوجّه إليه هذه الأعمال، وممّا يتطلّب التعبير عنه بهذا الشكل أو ذاك من أشكال الإبداع، وعلى نحو يحفر عميقاً في قلب المجتمع، ويكون وثيقة فنية تكون بنفسها، بالضرورة، إضافة معرفية إلى الأبحاث والدراسات من جهة، وتمثّل، بالضرورة أيضاً، متناً في تعريف الأجيال القادمة بما حدث، حقاً لا زيفاً، طوال تلك السنوات، ولا سيما إذا عرف المرء أنّ ما ينتجه الآخر، في غير مجال، يتفوّق كمّاً بما لا يقبل المقارنة قطّ، ومن بعض قرائن ذلك ما ينتمي إلى فنّ الرواية.
وبعد، فمن اللافت للنظر أنّ غير قليل ممّن ينطوي تحت عباءة الأدب والفنّ، لمّا ينجز أحدهم إلى الآن نصاً واحداً، أو لوحة تشكيلية واحدة، أو.. في هذا المجال، الأمر الذي يستعيد إلى الذاكرة ما كان أحد الحكماء قال لشخص امتُدح في مجلسه: تكلّم لأراك.