الغــــرق.. وحكايــــات القهـــر والونـــس
يجمع الكثير من النقاد على أن الفضل في توصيل الثقافة السودانية بكل خصوصيتها وتفردها في العالم العربي يعود إلى الروائي الراحل الطيب صالح صاحب رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” التي صنفت واحدة من بين أفضل مئة رواية في العالم. هذا الكاتب الذي سعى منذ عمله الأول “عرس الزين” لرصد وتوثيق التحولات الاجتماعية والثقافية لهذا البلد الغارق في خصوصيته الاجتماعية الأفريقية والعربية.
لكن ومع تصاعد واتساع رقعة التطور الإعلامي التقني بدأت المسافات تتقلص شيئا فشيئا بين الثقافات العربية ليظهر ضمن هذا الحراك أسماء روائية سودانية شابة حملت الراية الثقافية، وشكلت أعمالها إضافة غنية لبيبلوغرافيا السرد العربي، من حيث الاشتغال الفني الجمالي والموضوعي، دون أن تنفلت من تأثير الواقعية السحرية التي خلفها الطيب واستحالت مدرسة تلهم الأجيال في تكوين البنية الدرامية المنبثقة من الملامح المحلية، لغة بيئة، ومن بين هؤلاء الروائي حمور زيادة صاحب رواية “شوق الدرويش” التي نال عنها جائزة نجيب محفوظ للأدب عام 2014. والذي يطالعنا حاليا برواية جديدة تحمل عنوان “الغرق.. حكايات القهر والونس” ليستكمل فيها ما بدأه في الأولى من الاشتغال على التوثيق التاريخي السياسي والاجتماعي للأحداث التي عصفت بالسودان منتصف القرن الماضي من صراع سياسي على السلطة بين اليسار والراديكاليين والعسكر، والتناحر الاجتماعي العائلي والقبلي كانعكاس لصراع شامل على تقاسم النفوذ في فترة ما بعد الاستقلال عن الانتداب الانكليزي، وما نتج عن هذا التناحر والصراع من تقوقع اجتماعي ضمن العائلة والقبيلة، والموروث من عادات وتقاليد بما يشوبها من خرافة وأساطير التي يوظفها زيادة باحترافية عالية، ليبرز ما تخلفه من بؤس وقهر يطال الطبقات الفقيرة والمجهولة النسب لاسيما الرقيق الذي تعود تجارته لتزدهر ضمن تلك الفوضى. تستحوذ المرأة على حيز واسع من رواية حمور زيادة، التي تكثر فيها الأصوات النسائية التي ترتبط بالقهر سواء الداخلي أو الخارجي كامرأة تتحمل تبعات مجتمع ذكوري يمعن ويستمتع في قهرها جسديا ونفسيا.
تبدأ الرواية بلمحة وصفية للمكان قرية “حجر نارتي” التي تنحدر من الصحراء القاحلة شرقا، ويحتجزها بحر النيل غربا، وفي هذه القرية تأخذ الأحداث بالتشعب والتمدد في خطوطها الدرامية المتداخلة زمانيا وفق الفضاء الذي تمور فيه شخوص زيادة الكثيرة.
يفتتح الرواية باكتشاف أحد سكان القرية لجثة فتاة مجهولة تطفو على شاطئ النهر ليأخذنا بعدها برحلة الغرق في وحل الموروث الاجتماعي والفكري إلى الغرق الجسدي في نهر هو الجنة لبلد يأكله الفقر والجهل والتخلف، متحدثا بضمير المتكلم متنقلا بسلاسة بين حكايات شخوصه كل واحدة على حدة وربط مصير بعضها ببعض وارتباطها بالمكان بكل ملامحه التضاريسية والمثيولوجية ضمن بناء مدموك بفنية عالية، لم يدع مجالا للاستطرادات البلاغية والوصفية تشتيت القارئ المقتفي لآثار أبطاله المتخيلين.”.. لم تكن أية جنازة بحر هي جنازة سعاد، لكن فاطمة لم تكن تجيء كل مرة، تبقى في مكان الجنازة لأسابيع وأحيانا لأشهر تنتظر. يقولون إن بحر النيل إذا لفظ غريقا أتبعه اثنين من الغرقى القدامى الذي تمسّك بهم سابقا…” في القرية عائلتان متناحرتان متنافستان على الملك والسلطة “العموديّة” هما عائلتي الناير والبدري ، اللتين تنتميان لجد واحد ، فرق بينهما صراع متوارث على النفوذ والميراث عمق الأحقاد وأبعد مسافة اللقاء بينهما، رغم مساعي بعض العقلاء منهما لرأب الصدع وتلافي أحقاد لا تورث سوى الضغينة والفراق، ليأتي الصراع السياسي في البلاد فيزيد سعير تلك النار المشتعلة بين أبناء العائلتين “… تتحدث القرية عن مذابح السلطة الجديدة، دكّ الطيران جزيرة أبا على النيل الأبيض جنوب العاصمة، قتل إمام أنصار المهدي، يعزّون بيت البدري الموالي لأنصار المهدي، لكنّهم يخشون العسكر فينظرون بلا مبالاة…”
يفرد حمور زيادة في رواية الغرق حيزا واسعا لمأساة الرقيق الذين عانوا قسوة وظلما مجحفا في مجتمع تتعمق فيه الهوة بين الطبقات وتنخر بنيته الأمية والفقر والخرافة التي تقود الفقراء إلى الغرق في مستنقعها “.. نحن المتناسلون من اللامكان في قرية تتفاخر بالأنساب، لا يحترمنا أحد إلا بمقدار ما يحتاجون إلينا وما نظهر لهم من أدب وطاعة، أنت لست بنت البدري ولا بنت الناير، ولا أبوك صاحب أطيان، أنت بنت فايت ندو..”
هذا ما قالته فايت ندو مجهولة النسب لابنتها عبير التي كانت تحلم أن تدرسها طبيبة لتهرب معها إلى العاصمة وتتخلص من حياة الرق التي تعيشها في قرية لا أمل لها ولابنتها فيها، لكن الدروب تنقطع أمامها عندما تنتزع الرضية زوج عبد الرزاق البدري منها حفيدها وتهديه للغجر الرحل، الأمر الذي دفع ابنتها عبير للانتحار غرقا في النيل ومع غرقها تطوى فصول حكاية شعب حاك من الألم والونس سيرة ارتباطه بأرضه ومورثه سنين طويلة.
آصف إبراهيم