بلاد.. زرتها!
حسن حميد
أعترف، بأن الدكتور عبد السلام العجيلي كان بهّاراً في كلّ ما كتب، وروى، ونشر، ولكنه كان المحلّق في أدب الرحلات، والمدهش في الوصف والخيال، لقد قيّضت لي المحبة أن أزور قرطبة، وغرناطة، وقصر الحمراء، وجنة العريف، وحدائق الزهراء قبل أن أقرأ وصف الدكتور العجيلي لها، فرأيتها الأجمل، والأكثر إشراقاً وزينة ودهشة حين ماشيتها في كتابته الآسرة، فقد حلّق المكان وازدان وتجمّل أكثر في مسرودة العجيلي، وكأنه يكتب بذوب روحه التي انحنت أمام عظمة آثار الحضارة العربية في الأندلس الغاربة.
والحق أن أدب الرحلات جنس أدبي رفيع يحتاج إلى عين حساسة، وروح نفوذ، وقلب لهوف، وعقل موار، ومحبة وارفة، كيما تصير الأمكنة كائنات تتنفس، وتحكي، كما يحتاج هذا الفن الأدبي النايف إلى موهبة قادرة على أمرين اثنين هما: القدرة على الوصف، والقدرة على حشد المعلومات في أسطر بارقات. والدكتور العجيلي كان سيداً من سادة هذا الفن الأدبي الراقي. أتذكره، في هذا الصباح، وأنا أقرأ كتاباً في أدب الرحلات أنجزت كتابته ونشره الأدبية ضياء قصبجي التي رأيتها تتقفى دروب الدكتور العجيلي الظليلة في سرد موح كثير الرواء، غني بالوصف والمعلومات، وهي تكتب عن بلاد زارتها، وعن مدن عشقتها، وأعلام أدب وفن وصحافة عرفتهم وهي في ترحالها من بلدها سورية العزيزة إلى بعض البلدان العربية العزيزة أيضاً (لبنان، تونس، مصر، الجزائر، الأردن.. الخ) وبعض البلدان الأجنبية (بلغاريا، رومانيا، روسيا، أوكرانيا.. الخ) لغايات متعددة، منها ثقافية، وأخرى اجتماعية، وثالثة سياحية.
ضياء قصبجي التي عاشت في الجزائر سنوات تدريسها للغة العربية تقدم لنا المجتمع الجزائري في صورة غاية في النبل والجمال والألفة والوداد، وهي ترى إقبال الجزائريين على تعلم اللغة العربية بوصفها لغة وطنية مقدسة، وإقبالهم على بناء بلادهم بعد أن عصفت بها يد الفرنسيس طوال قرن وثلث قرن من الزمن المرمدة. ها هي تطوّف بنا في مدن (عنابة، وقسنطينة، والجزائر) لترينا جمال الجغرافية (الجسور، والعمائر، والأرض، والجبال، والأودية، والسكك الحديدية، وحقول الورد، والطيور، ونشور الفلاحين والعمال والجنود) ولترينا أيضاً الحياة الجزائرية البادية بكل زهوها وجمالها وقد خفقت راية الجزائر فوق كل بيت ومدرسة ومعمل، ولترينا تصميم أبناء الشهداء على خوض معارك جديدة ضد الفرنسيس الذي فرنسوا كل شيء حتى الهواء، من أجل عروبة الجزائر، ولكي يكونوا لائقين بالنشيد الذي يفتتحون به صباحات بلادهم: قد عقدنا العزم أن تحيا الجزائر!
وتمضي بنا الأديبة ضياء قصبجي إلى تونس لنقف على تراث تونس العظيم، تونس ابن خلدون، ومعاصرتها الباحثة عن مكان يليق بها لتكون بادية في العصر الحديث، تقف بنا عند القيروان، وسيرة عقبة بن نافع، وصليل أجراس اللغة العربية، وحمحمة التاريخ، ومعاني السبق، ثم تمضي إلى الحمامات حيث أنسن التونسي شواطئ البحر الأبيض المتوسط بما يليق بها من اجتماع ومودات ساحرة.
وفي مصر، تتحدث ضياء قصبجي عن الزمن المصري الذي يتجدد مع كل نهار، في الإسكندرية، حيث هو البحر، والفلسفة، والتاريخ، وأصوات الماجدين المتعالية، وفي القاهرة حيث هي عراقة البناء، والثقافة، والفنون، عراقة مدن الأنهار العظيمة وما تضافف حولها من مجد أثيل، وعراقة التاريخ البهّار.
بلى، قرأت مدونة الأدبية ضياء قصبجي السردية كلها، وأعجبت بها، فهي ساردة جوّابة للأسرار والكشف والجمال، لكنها هنا، وفي هذا الكتاب، وهي تتحدث عن الأمكنة والأعلام والعادات والتقاليد في غير بلد عربي وأجنبي.. تتفوق على نفسها لأنها كتبت ما يدهش حقاً، لأن عينها الرائية حملتها إلى عالم أبعد من عالم الحواس، فأبدت ما توارى من جمال البلدان، والأمكنة، والنفوس، والثقافة الراشدة.
Hasanhamid55@yahoo.com