بين موقفين..
في حين تظهر إيران موحّدة شعباً وجيشاً وقيادة كأقوى ما تكون الوحدة، في مواجهة العدو الأمريكي الذي يحاول إخضاعها بالتهديد والوعيد والعقوبات، فإن الموقف الأمريكي يبدو على العكس موقفاً متصدّعاً ومتناقضاً.
ولو عقدنا مقارنة بسيطة بين تعاطي الإدارة الأمريكية مع حدث إسقاط طائرتها من قبل الدفاعات الجوية الإيرانية، وبين موقف القيادة في إيران، لتبيّن بكل بساطة، أننا أمام أداء إيراني حازم وصادر عن رؤية استراتيجية واضحة للتعامل مع العدو، وموقف أمريكي متخبّط، لا يعكس انقساماً بين أصحاب القرار فقط، بل يفتقد، كما يبدو، إلى المعلومات الدقيقة عن إمكانيات الخصم، وإلى الاستراتيجية الواضحة في التعامل معه.. إيران منذ البداية قالت رداً على التهديدات العسكرية الأمريكية: إنها لا تريد الحرب، ولكنها جاهزة للرد على أي عدوان، كما أكدت، على الصعيد السياسي، أنها لا تثق بترامب الذي انسحب من الاتفاق النووي، وفرض عليها ما فرض من عقوبات جائرة، وأنها لن تتفاوض معه.. وجاء إسقاط الطائرة الأمريكية تنفيذاً لالتزام طهران بالرد على أي عدوان، وتأكيداً على أنها ستستمر في الرد إذا تكررت الأعمال العدوانية الأمريكية.
وإذا أضفنا إلى ذلك أنه كان بإمكان إيران إسقاط الطائرة الثانية التي كانت تقل 38 عسكرياً، ولكنها تعمّدت ألا تفعل، وما يحمله ذلك من رسائل تقنية وعسكرية وأخلاقية وسياسية بالغة الدلالة، فإن ما حدث هو فعلاً، كما وصفه الإيرانيون، (هزيمة نكراء، ودرس لا ينسى لهم، وهو مزعزع لمعادلاتهم التقنية والعسكرية).
فماذا فعلت الإدارة الأمريكية في مواجهة هذا العمل الإيراني؟.
أمر ترامب بالرد العسكري، ثم تراجع، ودعا إيران إلى مفاوضات دون شروط، ثم عاد، أول أمس، للقول: إن الخيار العسكري مازال مطروحاً على الطاولة، وإن إدارته بصدد تجهيز عقوبات إضافية، ولكنه حرص في الأخير على الإشادة بحكمة إيران لامتناعها عن ضرب الطائرة الأمريكية المأهولة.
وسواء كان ترامب لا يملك استراتيجية في التعامل مع إيران، ولذلك تتناقض تصريحاته وقراراته بشأنها، أو كان ما يقوله يعكس عمق صراعاته مع صقور إدارته من “الحربجيين”، فإن من الواضح أنه لم يسبق لإدارة أمريكية أن عرفت مثل هذا الانقسام والفوضى في السياسة الداخلية والخارجية على حد سواء، كما هي إدارة ترامب، وهو ما يضعف موقفها في مواجهة إيران، فضلاً عن تشويه سمعتها، وهزّ مكانتها في العالم. ومهما كانت الطريقة التي يفكّر بها الرئيس الأمريكي، فإن من المؤكد أنه أصبح أكثر اقتناعاً الآن بأن أي عمل عسكري ضد إيران لن يكون نزهة، وأنه سيطيح بكل أحلامه الوردية في العودة إلى البيت الأبيض، فضلاً عما سيلحقه بأمريكا والمنطقة والعالم من ويلات.. ربما آن الأوان ليفهم ترامب أنه لا العقوبات الاقتصادية، ولا التهديدات العسكرية، ولا حتى العدوان المباشر يمكن أن يُخضع أمة كبرى نجحت منذ قيام ثورتها في مواجهة أعظم التحديات، وأن عليه البدء بالنزول تدريجياً عن شجرة أوهامه الصهيونية، والذهاب إلى الحل السياسي بعد إثبات حسن نيته بالأفعال، وليس فقط بالأقوال.
محمد كنايسي