نوافذ 50
عبد الكريم النّاعم
كان يبدو شابّا وهو في الصفّ الثالث إعدادي، ممتلئ الجسم، يشكو جميع المدرّسين من كسله، ومن شغبه، ولم تُجد معه الأساليب المتعدّدة، استدعيته لغرفتي، وبدأت حوارا مطمْئنا معه، وفهمتُ منه أنّه أصغر أخوته العشرة، وسألته فيما إذا كانوا يدلّلونه في البيت، هزّ رأسه وقال: “من أين؟ لا أعرف من أين يأتيني الضرب، والدّفر”، أبرمتُ معه تعاقدا شفهيّا أنْ يُنصت طوال الدرس، فلا يُشاغب على أن تُعطى له ثلاث دقائق في نهاية كلّ حصّة يتكلّم فيها بما يشاء، ومرّت بضع ساعات على مايُرام، بعد الاتفاق مع المدرّسين على ذلك، فدخل عليّ وأبدى رغبته في نقض الاتّفاق قائلا: “ماذا ربحت؟! لم أعد أُشاغب، ولا استفيد من الدرس، لقد كبّلتَني”.
مرّ على ذلك أكثر من ثلاثين عاماّ، وكنت في أحد المقاصف مع صديقين، دعوتهما، يوم كنّا نقدر على ذلك، وحين طلبتُ الحساب قيل لي: “واصل”، سألتُ”ممّن”؟! فأشار لي النّادل إلى شاب ممتلئ عافية، وحين رآني أتطلّع إليه، ترك طاولته وتقدّم منّي مبتسما، بسهولة تذكّرته، فذاكرتنا تحتفظ بالمتفوّقين، وبالمشهورين بالكسل والشغب، تقدّم بحياء وودّ، ووضع يده في يدي وأمسك بها، قلت: “ألستَ فلان”؟ فأجاب: “بشحمه ولحمه”، شكرته على ضيافته وسألته من باب المجاملة: “ماأوضاعك”، قال باعتداد: “أنا ألعب بالمال لعباً، وأنت أستاذي كيف أحوالك”؟ قلت: “أنا على ماكنت، مازلتُ ألعب بالحروف”..
*******
قال زائري: “لقد قرأت مجموعتك “لأقمار الوقت” الصادرة عن الهيئة العامة السوريّة للكتاب، في وزارة الثقافة 2017، ولفتَني أنّ جميع قصائدها ترصد حالات شبه منتقاة من مجريات السنوات التي فار فيها التكفيريّون الصهيوأعرابيّون، وتساءلت كيف رصدتَ هذه الدّقائق، وتلك الأحداث وأنت ماتكاد تغادر بيتك”؟!!
قلت: “صحيح أنّي قليل الحركة، ولا أكاد أذهب إلاّ لتأدية واجبات لابدّ منها، ولكنّني لست مقطوعا للدرجة التي تُصوّرها، فثمّة مَن يزورني، ومن خلال زوّاري كنت التقط الكثير الكثير ممّا سمعته، ولا تنس صفحات التواصل الاجتماعي، فأنت فيه كالذي يدخل إلى دكّان تاجر قماش، فيفرد بين يديه مايجعله عاجزاً عن الاختيار، أنا ياصديقي، إنْ كنتُ لا أشارك في الملتقيات العامّة، لأسباب محض صحيّة، وبعضها نفسيّ، فلست خارج الأحداث، المُجريات كانت تمخر هذه الدّماء، بكلّ مافيها من دماء، وخوف، وحرص على الانتماء لهذا البلد”.
*******
لم يكن يهتمّ بأناقة ملبسه، فهو مهتمّ بإنجاز ماعليه أن يقوم به تجاه الأرض الصغيرة التي يعتاش منها، في ثيابه رائحة الأرض، ونفحة من عطر أوراق الشجر، وأعشاب البراري، يفكّ الحروف مثلما يقلع الصخور، في مدى عينيه آفاق بغير نهاية، ورؤى أحلام قد لا تجيء، لم يتعرّف إلى المدن الكبيرة، والقطارات، والشوارع العريضة النظيفة في الأحياء المٌترَفة، واضح كالرّعد، كقمم الجبال العالية، سمع بما تفعله قطعان التكفيريّين، أخذته رعْدة، فتطوّع في إحدى المجموعات التي تتصدّى لتلك القطعان، لم تحتمل روحه رؤية آليات التكفيريّين وهي تزرع الموت والغبار، تقدّم بمفرده أوقف رتلا، دمّر مادمّر منه، تذكّر الأبقار حين عودتها مساء من المراعي، أصابتْه قذيفة مضادّة، عرفوه من وشم كان على ظاهر كفّه اليمنى، كانت يده ماتزال ممسكة بالزناد..
aaalnaem@gmail.com