دراساتصحيفة البعث

جنون البحر الأسود

سمر سامي السمارة

كانت مياه البحر الأسود بعيدة عن مسرح العمليات التقليدية لحلف شمال الأطلسي خلال الجزء الأكبر من تاريخ هذا الحلف، لكن الفترة الأخيرة شهدت انتشاراً واسعاً لأصول بروكسل وواشنطن العسكرية في المنطقة.

وعلى الرغم من أن هذا الوجود لحلف شمال الأطلسي في مياه البحر الأسود لا يقدّم الحماية لأحد، فإنه على عكس ذلك، يعرّض حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة لخطر جسيم عبر تصعيد التوترات وزيادة خطر اندلاع حرب شاملة  بسبب حوادث مصطنعة عمداً (مثل حادثة خليج تونكين عام 1964) أو من خلال خطأ عشوائي أو صدام يتفاقم ويخرج عن نطاق السيطرة.

لكن كما يبدو أن مضي الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي قدماً في البحر الأسود ليس إلا ضرباً من الجنون الإستراتيجي، حيث تتكرّر المناورات الأمريكية الحارقة في استعراض لعضلاتها ضد بكين في بحر الصين الجنوبي: المنطقة التي عانى فيها الشعب الصيني من الغزو والانهيارات المجتمعية وحدوث إبادة جماعية على نطاق واسع بعد تغلّب بريطانيا وفرنسا عليها في حرب الأفيون الأولى (1839-1842) ومن قبل الإمبراطورية اليابانية في غزوها المروّع في صيف 1937. حيث تعتزم واشنطن بالقدر نفسه فتح جبهة ثالثة ضد إيران بسياسة المضي قدماً الموازية في الخليج العربي والمحيط الهندي، ثلاث حروب متزامنة ضد ثلاث دول كبرى، اثنتان منها هما الأكبر والأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم وهي مسلحة نووياً بشكل هائل، ويبدو الهدف الوحيد لإستراتيجية الولايات المتحدة الكبرى –في حال وجودها- انتحاراً.

سياسة غريبة ولاسيما في البحر الأسود: فتركيا وهي أقوى وأهم حليف لواشنطن في المنطقة أصبحت الآن على شفا الطرد من الناتو بسبب رغبة الحكومة التركية شراء نظام الدفاع الجوي الروسي الممتاز S-400، الأفضل من نوعه في العالم. لكن ليس لطرد أنقرة أي معنى منطقيّ على الإطلاق بالنسبة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، فقد أثبتت تركيا أهميتها الحيوية لـ”إستراتيجية” واشنطن الخبيثة للقرن الحادي والعشرين لإثارة المتاعب والاضطرابات في أرجاء المنطقة خاصة في العراق وسورية. وإذا بالفعل طُرِدت تركيا من حلف الأطلسي، وهو أمر مستبعد، فإن الولايات المتحدة ستفقد قدرتها على منع أنقرة من اتخاذ إجراءات صارمة ضد الجيوب الكردية.

والأسوأ من ذلك، في حال مضت الولايات المتحدة قدماً في تحدي اتفاقية “مونترو” لعام 1936 وتعبئة البحر الأسود بسفنها الحربية وطائراتها المقاتلة وغيرها من الأصول العسكرية، فإنها تخاطر بعزلها إذا أغلقت تركيا الغاضبة مضيق البوسفور. لذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحتفظ الولايات المتحدة بقواتها الخاصة وقوات حلف شمال الأطلسي الأخرى التي تدّعي أنها “لحماية” أوكرانيا وجورجيا في البحر الأسود إذا قرّرت روسيا وتركيا وبدعم من الصين وإيران عزلها أو التحرك ضدها. وفي هذه الحالة سيكون على الولايات المتحدة الاختيار بين الاستسلام، وخسارة حرب تقليدية كارثية على نطاق لم يسبق له مثيل.

على الرغم من إعلان الرئيس دونالد ترامب عن رغبته في السلام، إلا أنه ومع ذلك فقد عيّن وسمح لنفسه أن يكون محاطاً بالمتطرفين والمتشدّدين. تحدث كلّ من وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون والقائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي في أوروبا الجنرال كورتيس سكاباروتي بصرامة حول الحفاظ على القوة العسكرية الأمريكية وتوسيع وجودها في البحر الأسود، ويواصل معهم ينس ستولتنبرج، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، سكب البنزين بشغف على هذه المنطقة الحارقة متوهماً أنه القائد الذي يتحلّى بالشجاعة والكفاءة، علماً أنه رجل عديم الرحمة وغير مسؤول ولا يمكنه حتى حماية المراهقين من حزبه السياسي في موطنه النرويج من أن يتعرضوا للذبح على يد متطرف واحد مهووس بالكراهية!.

قد لا يهتم 99٪ من الأميركيين بتاريخ البحر الأسود وأهميته الإستراتيجية أكثر من اهتمامهم بالجانب المظلم من القمر، ومع ذلك، كعادتهم فإنهم يسمحون لأنفسهم بأن تسيّرهم وسائل الإعلام الرئيسية التي تبثّ الأخبار الكاذبة للتماشي السلبي مع هذه السياسات المجنونة والوهمية.

النتيجة واضحة للغاية: لا يمكن للتوسع الأمريكي في البحر الأسود أن يستمر، فالولايات المتحدة نفسها تطرد تركيا من حلف شمال الأطلسي مما سيجبر أنقرة على الانضمام أو الارتباط بمنظمة شنغهاي للتعاون من أجل حمايتها، ثم لن تكون واشنطن قادرة بعد الآن على الهروب من العقاب بخرق اتفاقية “مونترو” لعام 1936 متى رغبت في إغراق البحر الأسود بسفنها الحربية. وحينها ستواجه الولايات المتحدة بعد ذلك خيار التنازل عن تكبرها والاعتراف بفشل الخدع التي تقوم بها والتراجع والخروج من المنطقة، أو مواجهة اليقين المؤكد للكارثة القادمة.