كل هذا الانحطاط!؟
منذ أن وصل إلى البيت الأبيض والرئيس الأمريكي دونالد ترامب يمارس البيع: يبيع خدمات أمنية، ويبيع تحالفات، ويبيع حماية، ويبيع أسلحة، يبيع عواصم، ويبيع أوهاماً.. في “صفقة القرن”، لربما يختبر ترامب، وللمرة الأولى، موهبته في الشراء. هو يريد أن يشتري من الأجيال الفلسطينيية وطنها الوحيد الذي لا بديل عنه ليعطيه لـ “الإسرائيليين” دولة معترفاً بها، ومتنازلاً لهم عن أراضيها، مقابل خمسين مليار دولار، كمرحلة أولية، سوف توفّرها زعامات البترودولار العربي على شكل “استثمارات”، تعود بالأرباح على مقدميها، في أراضي السلطة الفلسطينية والمملكة الأردنية ولبنان وشبه جزيرة سيناء.
للوهلة الأولى، يبدو الأمر نوعاً من ترهة ينبغي للمرء أن يغادر كل مألوف ويخلع كل منطق لكي يستوعبها أو يتواصل معها، فترامب يكاد يتجاوز نفسه هنا كتاجر سلع وخدمات لكي يسمسر في القضايا. والمسألة تبقى على غاية من اليسر والبساطة: ندفع لك بالورقة الخضراء ونتقاضى منك وعياً فردياً وجمعياً وضميراً وطنياً وتاريخاً موغلاً في القدم! والحقيقة، فإنها لفي غاية الرعب والتدمير والمأساوية، وليست مسلية إطلاقاً، تلك الفلسفة السياسية التي وصلت حد الاستهانة بالشعوب والأمم إلى درجة اعتبارها أرقاماً متنقّلة يمكن مداورتها في أية بورصة، وهي الفلسفة التي باتت تحكم، على كل حال، وكما يبدو، عقل الإمبراطورية الوحيدة في عالمنا الراهن. والأنكى من ذلك، تلك الانتهازية المهينة والوضيعة والمثيرة للشفقة، والتي تجعل من بعض الأنظمة العربية عدوة لما يفترض أنه أمتها وشعوبها، إذ يطرح المرء ألف سؤال وسؤال ليدرك بالضبط: كيف يتمّ الانزلاق إلى أحضان الخيانة القومية، والتسابق إلى خدمة العدو الإسرائيلي على هذا النحو من المجانية، وما إذا كان البقاء في العروش يستحق كل هذه الأثمان الباهظة، مادياً وأخلاقياً ومعنوياً؟!، لماذا كل هذا التردي والانحطاط طالما أن الحفاظ على السلطة لا يتطلّب إلا حداً أدنى من التزام المصالح الوطنية والشعبية في بلدان منهكة بالفقر والجوع والضغوط الداخلية والخارجية؟!
هي ليست فلسفة بالأحرى.. هو نوع من الانفصال عن الواقع والقطيعة مع الحقائق التاريخية، وحتى الراهنة واليومية، لا يعكس إلا الإفلاس والعجز الصارخ والمزمن، وحقيقة أن الأطراف المجتمعة في العاصمة البحرانية، المنامة، إنما تنغلق في حوار مع ذاتها، وأنها ليست في موقع القادر على فرض أية تسوية بعيداً عن أصحاب القضية، والمعنيين أولاً وأخيراً بها، وأن أحداً لا يحق له، ولا يستطيع، أن ينصب نفسه وصياً على الآخرين، ولا أن يتحدّث نيابة عنهم دون موافقة. ومثل هذه السياسة خاسرة سلفاً، ولا تعدو كونها تكراراً ممجوجاً ومملاً وتطبيقاً بائساً للسيناريوهات الخليجية، المعروفة باسم حروب الوكالة، على القضية الكبرى المركزية هذه المرة (القضية الأم)، ولأنها تنطلق من أنانية النظامين السعودي والإماراتي التي باتت معروفة، وتأهبهما للتضحية بالأشقاء والمجازفة بهم وباستقرارهم على مذبح مصالح هذين النظامين، التي لا يمكن تلبيتها لأنها مبنية على اعتبارات الارتباط بمصالح لوبي العائلات الرئيسية الحاكمة الأمريكية، وعلى خدمة السياسات الغربية في المنطقة. والواقع فإن “صفقة القرن” لن تمر، وهي لن تكون أفضل حالاً من عشرات مشاريع التسويات والحلول التي دفنت في مهدها – وبشروط أفضل لربما – ولكن كل هذه الهمروجة ستنتهي، وحسب، بالمزيد من تشويه صورة وسمعة نظام، كالنظام البحريني، باتت وظيفته فقط أن يكون حديقة خلفية للسياسات السعودية، وحقل اختبار أولياً للمبادرات والمشاريع التي يتعيّن عليها أن ترافق الصعود الآمن لـ بن سلمان إلى العرش محمولاً، خاصة، على أكف العائلة الترامبية الحاكمة في البيت الأبيض، علاوة على إشباع نهم بن زايد ونزوعه إلى التوسّع والسيطرة وسط غياب أية مقوّمات وعوامل القوة الحقيقية، ماعدا القدرة على شراء الذمم والضمائر والمواقف عبر شبكة من التحالفات المشبوهة التي تبدأ وتنتهي في مؤسسات صنع القرار الامبريالي في واشنطن وبقية العواصم الأوروبية الأطلسية.
الأراضي العربية المحتلة هي قضية بلاد الشام أساساً، فما تعرّض للسلخ والاحتلال والتقسيم والاستيطان والطرد والتهجير واللجوء هو إقليم سورية الطبيعية وأبناؤها. والرياض وأبو ظبي والمنامة أعجز من أن تلعب دور حكومة التاج المستعمرة، بريطانيا، فتعطي وعداً هنا، وإعلاناً هناك، ومثل هذا العملقة المستعارة والمزيفة، والتي هي في غير محلها، لن تعمل إلا على التسريع بإعادة الحقوق وإحقاق العدالة عبر مختلف الطرق المتاحة، وقبلها على عملية الفرز التاريخية الضرورية التي ستحدّد هوية المدافعين الحقيقيين عن الحقوق والمتآمرين عليها، بعيداً عن أبواق الدعاية ومرتزقتها.
ترامب فاشل وأخرق وهو علامة على الانحطاط وتعبير عن أزمة أمريكية عميقة أكثر مما هو محمّل بدلالات إصلاحية.. المشكلة في هؤلاء الذين يعيشون كوابيس الشعور بقرب السقوط والنهاية، وهم حاضرون لكل ضروب المراهنات والمقامرات والاستجداءات الخطرة.
بسام هاشم