ثلاثية هزوان الوز والرواية القادمة
أنجز الأديب هزوان الوزن ثلاثيته (معرض مؤجل) في زمن قياسي وتمثل (اللوحة الثالثة) السقف في البناء السردي، والذي لم يخرج عن متابعة حال رامي العنيد الفنان التشكيلي، وما حل بأسرته، مع تأكيد في غير موضع أن الرواية القادمة ستكون مختلفة، ومن خلال حياة هذه الأسرة القادمة من ريف حمص وتحديدا من وادي النضارة إلى دمشق وحي القابون الذي عاشت فيه، يرسم الأديب كيف كانت دمشق وكيف تحولت وماذا حل بها وعلى وجه التحديد الغوطة، ولابد أنه نجح في تحقيق ما أراد لأنه ترك للمتكلم أن يبوح بما في داخله بعيدا عن أي تجميل للصورة أو حتى تدخل للضرورة التي يقتضيها البناء الفني للرواية، لذلك تنتمي هذه الرواية إلى عالم السيرة الذاتية وهي ليست سيرة المؤلف بكل تأكيد، بل هو شخصية مستقبلية سيكون له الدور الكبير في رواية حكاية الحكاية.
في اللوحة الثالثة يضطر رامي للسفر فيحمل حقائبه ويتجه إلى الولايات المتحدة الأميركية، وفي الحقائب لوحاته الفنية، وفي الصدر طموح لا يحد بأن تفتح أميركا صدرها لفنان تشكيلي قادم من الشرق. أما في المآقي فدموع وأسى عميق على كل ذلك الماضي من الأحلام الوردية بعالم خال من الاستغلال الطبقي.
تعكس هذه الرواية صورة المثقف العربي عموما وتفضح حجم طموحه ومدى ما يعانيه من عجز وتردد وازدواجية في المواقف والسلوك، وخيبات تصل إلى حد الفجيعة، حتى يكاد المثقف العربي أن يكون ابن الوجع التاريخي وحده، وهو هنا مسلوب الإرادة ومضطر لأن يتنازل عن الكثير مما يجب ألا يتنازل عنه، ولا يجد من يشتري، فلوحاته لم تجد حتى أبسط الجدران في أميركا لتتبرج ولو لساعات على سجادة ترف تلك الجدران المتخيلة، فظلت رهينة محبسها وغربتها وعادت ولم تجد ذاتها إلا في القابون مرتع الشباب، وملتقى الأحباب.
لم يكن رامي الفنان الذي فقد بصماته نتيجة الجلي والأعمال اليدوية في الفرن ومحطات الوقود شخصية متخيلة من بنات أفكار الروائي، بل هو المتعلم الذي علق أبوه عامل النسيح كل أماله عليه، وأراد له أن يدرس الفن في موسكو ليزوره هناك ويكحل عينيه بمرأى الساحة الحمراء، لكن الرفاق خذلوه، وازداد خذلانه عندما سقط الاتحاد السوفييتي وراح يشاهد بأم عينه كيف تهافت رفاق الأمس على الجوامع والكنائس وتلك الطقوس التي كانوا يحاربونها من قبل.
وإذا كان رامي هو شكل ونموذج من انكسار المثقف فإن الانكسار الثاني أشد تأثيرا ، إنه انكسار العامل في الخماسية وما يمثله من أيديولوجية، والأخطر في أن تلك الأم العظيمة ترفض أن تدفن في مدفن زوجها، بعد طلاق غير معلن بين جسدين لم يعرف الحب دربه إليهما..
هل هذه الانكسارات الحادة كانت وراء ما حدث في بلدنا؟
لا يخفي الروائي هزوان الوز جوابه بالإيجاب، وما زال يعدنا بأن يبحث في الأسباب التي أدت إلى كل هذا الخراب والدمار، وبرواية مختلفة وإن كان البطل الجديد ليس بعيدا عن بطل الثلاثية، وهذا تأكيد على تبيان دور المثقف وهزيمته أمام القوى النافذة في المجتمع.
في حياة رامي فجيعتان، وتستحق كل منهما السؤال ما العمل؟ فلا موسكو وصلها وظل منسجما مع العقيدة التي آمن بها وأراده أبوه أن يكون وفيا لها، ولا مانهتن حققت ما كان يحلم به. ولا بد من قراءة اللوحة السابعة والعشرين لأنها بيت القصيد أو عصارة التجربة، فقد كشفت تهاوي الأحلام حين نقتلع من جذورنا ونعاند الريح ونقف في مواجهة من هم قادرون على امتطاء الموج والسيطرة على السفينة والشراع في عالم لا مكان فيه للضعيف، ولا مكان للمادة وحدها ولا الروح. وهنا أقتبس ما قالته صديقة الفنان التي وافقت أن تلعب دور العاشقة للرجل الذي لم يختزن جسده الحب: يا صديقي منذ مدة طويلة وأنا ابحث عن رجل يتقن الحب واللعب بالكلمات مع الأنثى، كل الرجال الذين عرفتهم يريدون الجنس قبل الحب، لا نعرف كم هو ممتنع الحب عندما نمارسه مع شخص عبر الهاتف من دون أن تعرفه أو ترى صورته أو يعرفك، أنا شخصيا كأنثى أعشق الحب بالكلمة قبل الجسد ص356. في البناء الروائي ما يستحق الوقوف عنده، أي كيف وظف المعماري أدواته؟ وهل النجاح في ما أراده؟ أم أن البناء جاء عفو الخاطر؟ أستبعد ذلك، ففي ما اعتمده الأديب من مداميك غاية ووسيلة لتحقيق هدف، فالقارئ الأول والقارئ الثاني وما أدليا به من أراء انطباعية ونقدية للمخطوط الذي بين يديهما لمنحه الموافقة أو عدمها أضافا روحا نقدية وإضاءة تكاد تكون ملامسة للسرد بلغة مغايرة، وكذلك مرآة النص وهي نصوص من خارج الرواية ومن شخصيات أدبية أو فكرية معروفة، لكنها في مجملها أضافت نص روائي مواز لحكاية اللوحة الناقصة واللوحة الثالثة في معرض لم يعد مؤجلا.
رياض طبرة