“سيدات القمر” ابداع يستحق البوكر الدولية
استقبل حصول الترجمة الانكليزية من رواية الكاتبة العمانية جوخة الحارثي “سيدات القمر” على جائزة مان بوكر الدولية لهذا العام على ردود أفعال متباينة بين مستهجن ومستنكر ومستغرب لكون حصول نص لروائية شابة رصيدها الإبداعي لا يتعدى ثلاث روايات، ضمن الحضور القوي لنصوص أسماء روائية عربية معروفة، وقد عزا البعض نجاح وصول النص إلى البوكر كأول رواية عربية تنال هذه الجائزة منذ تأسيسها، إلى الأسلوب البارع للمترجمة الانكليزية مارلين بوث أستاذة الأدب العربي في جامعة أكسفورد، لكون “سيدات القمر” بنسختها العربية رشحت للبوكر العربية، ولم تصل حتى إلى القائمة الطويلة. فما هو المتميز في هذه الرواية التي قالت عنها رئيسة لجنة التحكيم بيتاني هيوز في حيثيات الفوز “تستولي على القلوب والعقول”.
تميل الرواية إلى الأسلوب السينمائي التصويري في تحقيق التوازن وتعادل الأدوار بين الشخوص ضمن فضاء زمني متعدد ومتداخل، تتولى مهمة السرد فيها ثلاثة أصوات تبدأها المؤلفة التي تمهد لاستثارة مكامن الوعي الجماعي لدى عدة شخصيات، ثم تترك لشخوص عرض عالمها الخاص والمتغيرات التي تلاحقت عليها وأحيطت بها.فالأحداث تمتد لثلاث فترات زمانية ضمن فضاء مكاني واحد هو بلدة “العوافي” في سلطنة عمان التي يلتقي فيها أبطال الرواية الذين ينتمون لثلاثة أجيال، ويمتد فيهم الزمن قرنا كاملا من بدايات القرن الماضي وحتى نهايته، وضمن هذا الحيز تستعرض الكاتبة الكثير من الأحداث والتحولات التاريخية والاجتماعية التي مرت بها سلطنة عمان من صراع القبائل والانكليز ومعركة الجبل الأخضر، والأحوال التي مرت على الناس من فقر ومجاعة “كان الناس يتحدثون عن آثار الحرب العالمية، والغلاء الفاحش واضطرابات القبائل، وهي لاتفهم ما علاقة ذلك كله بنظرات عمها ليدها وفمها أثناء تناول الغداء..”
تنقل لنا الروائية عبر نص مثير للدهشة صورة مغايرة للحالة النمطية الرائجة إعلاميا عن المجتمع الخليجي، صورة أخرى لمجتمع منفتح اجتماعيا يحرص على العلم والثقافة وحرية المرأة وعلاقتها بالآخر، فالمرأة في”سيدات القمر” كائن اجتماعي فاعل تمارس دورها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية على أكمل وجه، فالكاتبة تفتتح سردها “ميا التي استغرقت في ماكينة خياطتها السوداء ماركة الفراشة، استغرقت في العشق..”.ثم تنتقل إلى أختها أسماء المولعة بقراءة الكتب وحكايات الحب والمغامرة “كانت أسماء مثل المتنبي وابن الرومي والبحتري ومجنون ليلى، خيالات شاهدة في الكتب، خيالات بلا حياة تنتمي لعالم المدرسة البغيض والكتب والمحفوظات المملة…” ، ثم أختها الصغرى خولة المغرمة بابن عمها ناصر التي ترفض الزواج من ابن عيسى المهاجر فتقول لوالدها: “..لن اسكت كما سكتت ميا، تعلمت وستقتل نفسها لو أصر والدها على هذا الزواج..”
تدور الحكاية حول ثلاث عوائل تلخص الواقع العماني، عائلة عزان، وسليمان التاجر، وعيسى المهاجر. وميا هي الابنة الكبرى لعائلة عزان وسالمة، ومحور السرد تزوجت من عبد الله ابن التاجر،الذي اشتغل جده بتجارة السلاح ووالده بالرق والتمور، وتزوجت أسماء من خالد الفنان التشكيلي ابن المهاجر الذي لجأ إلى مصر بعد معارك الجبل الأخضر، وعاد بعد خروج الإنجليز والعفو العام.وتزوجت خولة من ابن عمها ناصر الذي أوفد للدراسة في كندا وبقي فيها عشر سنوات ليعود بعدها دون شهادة. هؤلاء يمثلون الجيل الثاني الذي كان نقطة التحول الأساسية بين الماضي بكل قسوته وآلامه، وبين الحاضر بتسارعه نحو العولمة التي أغرقت جيلها بالأحلام الواهية هذا الجيل الذي مثلته “لندن” ابنة ميا وعبدلله تلك الفتاة التي درست الطب وحلمت بالتمرد على الواقع في علاقتها مع احمد الشاعر الباحث عن الشهرة.
“لندن” الاسم الذي فرضته ميا على العائلة لابنتها البكر، أرادت الكاتبة من خلاله الإشارة إلى التأثير الغربي في الحياة الخليجية عموما، هذا التأثير الذي لم يتوقف عند الاسم فقط بل شمل جوانب حياتية عديدة ربما ساهمت في وصول النص إلى البوكر”… قال لي بعربية سليمة حين التقينا: أنت رجل أعمال ولا تعرف الانكليزية؟ أي مطعم في مسقط نفسها لايخدمك بدون لغة، وصدق كنت قد تعبت من الإحراج في حجز الغرف في الفنادق، وفي دعوات العشاء في المطاعم داخل بلادي العربية التي لا تتحدث مطاعمها ومستشفياتها وفنادقها غير الانكليزية…”
حقائق تاريخية عديدة توظفها “سيدات القمر” لإغناء خطابها الروائي منها تجارة الرقيق التي راجت بدايات القرن الماضي وكانت سلطنة عمان مركزا ومعبرا لها.. “في ٢٥ سبتمبر ١٩٢٦ م كانت عنكبوتة الملقبة بالخيزران تحتطب في الصحراء حين فاجأها المخاض، وفي اللحظة التي ولدت فيها طفلها مستخدمة سكينا صدئة في فصل حياتهما، كان المجتمعون في جنيف يوقعون على الاتفاقية الخاصة بالرق التي تنص على إبطال الرق وتحريم تجارته…” لكن هذه الاتفاقية لم تطبق واستمرت هذه التجارة عشرات السنوات بعدها.
تغوص خوخة الحارثي في عمق البيئة لتعيد توظيف المفردات الغارقة في المحلية تضطر للاستعانة بالهامش لشرح الكثير منها والأمثال الشعبية، والعادات والتقاليد الاجتماعية وعلاقة بعضها بالخرافة والمسلمات الميثولوجية، ولهذا نستطيع القول: إن النص غني بلغته وطروحاته وأسلوب السرد المتماسك القائم على الاستفادة من كل اللحظات والمواقف لإثارة الدهشة والإمتاع معا.
آصف إبراهيم