في وداع الملكة
سلوى عباس
كم يبدو الغياب ثقيلاً وغير محتمل حين يدق الموت باب يومنا معلناً نفسه ضيفاً مقيتاً لا نستطيع التآلف معه، لكننا نتقبله بامتعاض يرافقنا مدى الحياة، هذا الزائر الذي يقيدنا بسلاسل من استسلام لا يمكننا الفكاك منها، لنرى أنفسنا على عتبة الوداع، كما حالنا الآن ونحن نودع ملكة لها تاريخها المشرق في الأدب والثقافة، فأمام سر الحياة والموت تصغر الكلمات، والأيام تمضي بكل ما تحمله من أسى وحزن، نقف على حافة الفقد نودّع ونستذكر أحبة وأصدقاء غادرونا، أعزاء جمعتنا بهم الحياة وتقاسمنا معهم رغيف أفراحها وأحزانها، فبالأمس كانت د. ملكة أبيض بيننا تشاركنا تفاصيل أيامنا بكل حالاتها، هذه الغيمة العطرة التي أرّقها الوجع على بلد مثّل لها ولشريك حياتها الشاعر الراحل سليمان العيسى أيقونة من حب كانا حريصان عليها، تغادرنا اليوم وجرح يقضّ قلبها على وطن عشقته وشغفت به، وطن عانى ما عاناه من النزف والألم ولا زال، هذا الوطن الذي رسمته حلماً من حب ارتسمت حوله تطلعاتها وأمانيها فحملته في وجدانها أمانة وكان الحلم في أبهى حالاته.
ربما في اتكائها على الموت تكون ملكتنا قد قررت الإبحار في رحلة استكشافية جديدة، رحلة نعرف أنها لن تعود منها ولن تحكي لنا عنها، هكذا توقف قلبها المحب دون كلمة وداع، رفعت أشرعتها باتجاه مغاير لاتجاهاتنا، ليتوقف ينبوعها عن التدفق.
في لقائي الأول مع د. ملكة سألتها عن دورها في حياة الشاعر سليمان في السنوات العشر الأخيرة منذ بدأ مرضه فأجابتني بكل تواضع: دوري كان عادياً جداً، أنا إنسانة مثقفة وأقوم بإعداد بحوث ومن باب أولى أن أبحث في عمل زوجي ونتاجه، فنحن نعمل في مجال التربية أغلب الأحيان، نجري تجارب وبحوثاً ميدانية، لذلك أنا اكتب عنه الكثير، ولاسيما الكتب الأخيرة كلها تضمنت إما مقدمة للكتاب بقلمي أو دراسة عن الكتاب كنت أنشرها بالمجلات، ثم بعد ذلك جمعناها في كتاب بعنوان “سليمان العيسى في لمحات” إضافة إلى أن طبيعة الشاعر تختلف عن طبيعة الباحث الدؤوب، وهذه كانت مهمتي، وأحياناً كنت اقترح عليه الموضوعات ونبدأ بتنفيذها وطباعتها وإخراجها ومتابعتها حتى النهاية، وعندما كان يمل ويراني بقمة نشاطي كان يتابع العمل دون تأفف، فأنا دؤوبة في العمل، وهذه سمة تلازم كل أكاديمي.
كانت الملكة تعيش حالة من الإيثار مع زوجها وبيتها وهذا ما كان يعرفه عنها كل من عرفها عن قرب، لكنها كانت ترفض هذا الكلام بقولها: أنا لم أضح لأن حياتنا المشتركة كانت غنية، ولو فكرت أين أعيش مستقبلي بعيدة عنه لكانت حياتنا باهتة وفقيرة، لكن وجودنا مع بعضنا أعطى الحياة طابعاً أجمل, وأكثر غنى، وإذا تحدثنا عن التضحية فهو أيضاً ضحى من أجلنا كثيراً، وحياتي كانت غنية في مشاركتي سليمان العمل لأن لي ميولاً أدبية منذ الصغر، فعندما دخلت واشتغلت في التربية وعلم النفس وضعت اهتماماتي الأدبية جانباً، ثم بعد ذلك وخلال عملنا في الأدب باستمرار هذا كله ساعدني على الكتابة والترجمة وغيرها من أعمال الأدب، وهذا كله أنتجته من خلال عملي مع سليمان، فوجودي بجو أدبي جميل ساعدني أن أعطي دون تعب أو ملل، ودوري في العمل مع سليمان أن أحقق له الأرضية والظرف المناسب للكتابة والإبداع.
هكذا هي الحياة.. تبعثرنا، تفتت أجسادنا وأمانينا، لانعرف متى جمعتنا وشكلتنا أهلاً وأصدقاء وأحبة، لكن كما جمعتنا كذلك تفرقنا لنرى أنفسنا على مفترق الغياب.. هكذا يرحل أدباؤنا ورموزنا بحكم قانون الحياة وصيرورتها، لكنه رحيل الجسد وبقاء الروح نبتة خضراء مورقة في أجيال تمثل الامتداد لرسالتهم وتجربتهم.. لترقد روحك بسلام سيدة الكلمة والحضور كنت مثالاً في العطاء وستبقى ذكراك منارة للأجيال في مشوارهم الطويل.