الصحراء في الشعر الجاهلي.. كتاب وأكثر
“لم أجد دراسة تقف على أثر الصحراء في الشعر الجاهلي، وقوفا يأخذ بجوانب الدراسة على أساس علمي وافٍ يتصف بالدقة والشمول، ولم أجد دراسة متكاملة، تتناول هذا الموضوع بشيء من التحليل والاستقراء الواسع، لتقدم نتائج متكاملة تجعل القارئ يحيط بأطراف الموضوع، ويقف بدقة على الآثار التي تركتها الصحراء في الشعر الجاهلي بمعانيه ومبانيه”، ما سبق كان السبب الرئيس الذي دفع بالشاعرة والباحثة السورية “مها قنوت” للعمل على وضع كتاب يحمل بين صفحاته التي قاربت ال 700 صفحة-ذهب منها 40 صفحة للمراجع- لأثر الصحراء في الشعر الجاهلي، في عنوان متقارب “الصحراء في الشعر الجاهلي” الصار عن الهيئة العامة السورية للكتاب، حيث ذهبت “قنوت” للعمل على تحليل العديد من القصائد العربية في العصر الذي يسمى ظلما بالجاهلي، وذلك بقصد دراسة هذا الأثر على الوجدان العام الشعري، إن كان على الشعر، أو على الحال العام لطبيعة تلك الفترة، لأدركها بكون القصيدة، هي وثيقة “زمكانية” أيضا، ومن أجوائها والإيحاء العام الذي تشيعه، والمنحى الذي تنحوه، يمكن معرفة الكثير عن ما هو غامض فيها، وبالتالي، فهي منهل خصب ولا ينضب لما تبحث عنه وتشتغل على استقراء الماورائي فيه من خلال القصيدة، البحث عما هو متوار بين الكلمات ولا يُقرأ، الصورة العامة لمشهدية البيت الشعري والقصيدة بشكل عام، إنها إذا تذهب نحو أكثر من قراءة أدبية شعرية، بل إن المنحى العلمي سيحضر في الكتاب الآنف الذكر، أيضا بما يتسق مع القراءة الحسية الوجدانية لكونها قارئ أولا، وامرأة، علاقتها مع القصيدة الشعرية، هي علاقة مدموغة بالشغف، لأنها لطالما كانت وما تزال، الثيمة الأهم والأجمل لديوان العرب، من جاهليته حتى اللحظة.
قسمت الكاتبة “الصحراء في الشعر الجاهلي” إلى ثلاثة أقسام هي: الصحراء والقبيلة في الشعر الجاهلي/ أثر الصحراء في الحروب والغزو/ أثر الصحراء في المثل والقيم، مفتتحة أو فصول الكتاب بعدة تعريفات للصحراء لهدف سيخدم القارئ كلما تقدم في القراءة، فالجميع يعلم ما هي الصحراء شكليا، أو له تصوره عنها، أما تعريفها فهو من البديهيات التي تغيب عن العقل لارتباطها بالصورة التي قدمتها فيها الأعمال الدرامية عموما، بالنسبة لمن ليسوا من أبنائها، أما من كان من أبنائها فهو يعرفها ويدركها بحواسه، لكنه وبشكل عام، لا يستطيع أن يقدم شرحا وافيا عن مكان حياته، من مولده حتى مماته، فهو يحيياه، يعني أنه لا يستطيع أن يرى المكان إلا بعين الناظر إلى الوطن، أما صفاتها وأبعادها وأثارها فهو غير معني بها إلا ما قلّ، وهنا تورد الكاتبة بعضا من تلك التعاريف، ومنها: (إنها الأرض المستوية في لين وغلظ ودون القف من الأرض، وهي الفضاء الواسع لا نبات فيه، وأصحَرَّ المكان أي اتسع)، ويصفها أيضا ياقوت الحموي 1179-حلب 1229- بقوله في كتابه الشهير “معجم البلدان”: (مثل ظهر الدابة الأجرد والتي ليس بها شجر ولا آكام ولا جبال ملساء)، إلا أن الدراسة التي تقدمها الباحثة تذهب لرصد امتداد هذه الصحراء في الزمن، بامتدادها واتساعها، بتنوعها وما تشمل عليه من كثبان ورمال وواحات، شجر وآكام، جبال وأودية، فهي تمتد ذلك الامتداد الواسع الذي شكل مناطق كثيرة، وامتد من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، وقد سكن العرب في الجاهلية في هذه الصحارى الممتدة الواسعة التي قلّ فيها وجود الأنهار حتى قيل: “لا نعلم بأرض العرب نهرا ولا بحرا يحمل سفينة”، إلا أن الأنهار والبحار أحاطت بهذه المنطقة ورسمت حدودها، فبدت في الوصف اللغوي قبل الشكلي وكأنها جزيرة محاطة بالماء، بسبب الخليج العربي، وبحر العرب، وخليج عدن، والبحر الأحمر، والبحر المتوسط ونهري دجلة والفرات، ولهذا يسميها الهمذاني بلاد العرب، وذلك لأنها جزيرة محاطة بالبحار والأنهار.
بالتأكيد إطلاق حكم قيمة على أعمال موسوعية، يحتاج أيضا إلى مراجعات موازية، لاستنتاجات يستخرجها القارئ مما ذهب إليه في سعة إدراكه وحسن صبره، إلا أن الكتاب عموما ممتع فيما ذهب لتقديمه من جهة الشعر الذي يتضمنه ومنه تم الاستنباط، أيضا لقصصه وأمثاله الجميلة، عدا عن كونه بحث موسوعي يفيد منه من يريد أن يذهب في دراسة مماثلة.
تمّام علي بركات