الإعلام المقاوم و”صفقة القرن”
كان لوسائل الإعلام دور كبير في تشكيل تصوّر ووعي معيّن لدى قطاعات واسعة من الرأي العام، حول طبيعة ومضمون ما سمي “صفقة القرن” وتبيان مخاطرها على القضية الفلسطينية وأهدافها البعيدة، وما يرتّبه ذلك من تداعيات خطيرة على دول المنطقة وشعوبها والحقوق التاريخية لأبناء الشعب العربي الفلسطيني، الأمر الذي ساهم في تعبئة الرأي العام ضدها، رافقه على التوازي حراك حقيقي في الشارع العربي، ساهم إلى حد كبير في وضع حد لعدم انخراط العديد من الدول العربية، أو مشاركة رفيعة المستوى فيما أطلق عليه “ورشة البحرين”، التي اقتصرت على حضور خجول ومحدود من قبل بعض رجال الأعمال، أو موظفين تكنوقراط في مفاصل الوزارات والإدارات الحكومية في الدول المشاركة، ما يعني بالمحصلة أن ما جرى الإعداد له وتوقع حدوثه من قبل المنظمين والداعين للفكرة لم يتحقق، وهذا باعتقادنا نجاح يسجّل للقوى التي واجهت تلك الصفقة، وتصدّت لها منذ الإفصاح عنها قبل حوالي سنتين.
وبنظرة موضوعية لتحليل أسباب ما حصل من تعثّر مبدئي للصفقة، وهو باعتقادنا نجاح يسجّل للقوى السياسية والتنظيمات التي تحرّكت وحرّكت الشارع، بقدر ما هو نجاح يسجّل لوسائل الإعلام، التي تصدّت منذ وقت مبكر لفكرتها، واستطاعت أن تجعل منها قضية رأي عام، فرضت نفسها على الجميع، بما في ذلك المستويات السياسية ومراكز القرار في النظام الرسمي العربي ودائرة الاهتمام الإقليمي والدولي بالقضية الفلسطينية. وهنا تقتضي الموضوعية الإشارة إلى الإعلام الوطني السوري وقناة الميادين والمحطات الفضائية التابعة لمحور المقاومة والصحافة المكتوبة وشبكات التواصل الاجتماعي، التي لعبت دوراً كبيراً في هذا المجال، يضاف إلى ذلك ما قامت به المنظمات القومية العربية، كالمؤتمر القومي العربي وقوى المقاومة بتصنيفاتها ومشاربها السياسية المختلفة، التي التأمت في لبنان وسورية بهدف استجماع الرصيدين الوطني والقومي وحشدهما في الشارع، لجهة إعطاء رسائل لمن يعنيهم الأمر بمخاطر تلك الصفقة، وتعارضها مع المصالح العليا لأبناء الأمة، ولاسيما قضية العرب المركزية القضية الفلسطينية، حيث شكّل الموقف الموحّد منها، ولأول مرة، قاسماً مشتركاً لمجمل تلك القوى.
إن النجاح الذي تحقق مبدئياً يمكن إرجاعه أولاً، للوعي المبكر لمخاطر صفقة القرن على القضية الفلسطينية وشعوب المنطقة على وجه العموم، وهو ما ساهمت في تشكيله وسائل الإعلام المقاوم، عبر استضافتها لنخب فكرية وسياسية، والمنتديات الفكرية والثقافية التي نظّمتها بعض القوى السياسية العاملة على الساحة العربية، وخاصة في دمشق وبيروت، وهنا تجدر الإشارة لما جاء على لسان السيد الرئيس بشار الأسد في بداية الأزمة في سورية، حيث قال: “إن إحدى مشاكلنا نحن العرب يكمن في الوعي المتأخر للأحداث، وعدم استبصار مخاطرها في حينها”. فالوعي المبكر لمخاطر الصفقة ساهم إلى حد كبير في تعطيل وفرملة آليات تحرّكها لتحقيق أهدافها، والسبب الثاني، رفض القوى الفلسطينية بشكل كامل للصفقة، وعدم حضور ورشة البحرين ساهم في الحيلولة دون إعطاء غطاء فلسطيني لها، وهذا موقف تاريخي يسجّل للقوى الوطنية الفلسطينية، ويمكن البناء عليه مستقبلاً لتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية على قاعدة الثوابت الوطنية والميثاق الوطني الفلسطيني، إضافة إلى أن هذا الموقف الموحّد حال دون انخراط العديد من الأنظمة العربية في حيثيات الورشة، ما أضعف من محصلتها السياسية، على الرغم من عنوانها الاقتصادي المخادع والمضلل.
والسبب الثالث، الحراك الواسع للشارع العربي الرافض للصفقة يؤكّد أن محاولات “فك الارتباط” ما بين فلسطين وضمير أبناء الأمة لم تحصل على الرغم من كل ما جرى من إرهاب ومشاكل في أغلب الدول العربية، ولاسيما سورية، رأس محور المقاومة، واستهداف إيران، لجهة حرف بوصلة الصراع عن وجهتها الأساسية فلسطين، وفي القلب منها مدينة القدس.
والسبب الرابع، الانتصار الذي حققته سورية على المشروع الأميركي الصهيوني وذراعه الأساسية التنظيمات الإرهابية، وبدعم من محور المقاومة واتحاد روسيا، وثبات القيادة الإيرانية في مواجهتها مع الولايات المتحدة الأميركية، وما شهدته غزة والضفة الغربية والجولان العربي السوري من مواجهات ومقاومة للاحتلال، انعش وعزز الأمل في الشارع العربي، ومنحه المزيد من الثقة بالنصر، والرهان على الفعل والموقف المقاوم، وعلى المقلب الآخر أضعف محور الاستسلام والخنوع وعزله شعبياً، ما جعله مشلولاً سياسياً، وغير قادر على الغوص أكثر في مستنقع التنازل والتفريط في القضايا السيادية ومصير ومصالح أبناء الأمة وشعوبها.
والحال، فإن النجاح المبدئي في مواجهة أول خطوة في مسلسل أو مسرحية “صفقة القرن” وفرملتها يعزى إلى جملة العناصر السابقة، ولكن يبقى الارتكاز والنواة الصلبة لكل ذلك هو الانتصار الذي حققته سورية، بفضل ثبات إرادتها السياسية وتضحيات جيشها وشعبها.
د. خلف المفتاح