حسابات أمريكا الخاطئة
كان للعقيدة الدبلوماسية الأمريكية “أمريكا أولاً”، وهوسها بالانتصار والأمن المطلق تأثير غير متوقّع على البلدان الأخرى والنظام الدولي، إذ تقوم الولايات المتحدة، التي كانت تُعتبر في وقت من الأوقات، بمثابة قائد للعولمة، الآن بلي ذراع البلدان الأخرى بشأن التجارة الحرة عبر الحدود، كما أنها تطلق على نفسها “شرطي العالم”، لكنها كثيراً ما تصطدم بالواقع العسكري والاقتصادي لتزيد من تفاقم الوضع الدولي المتوتر بالفعل.
تعتقد الإدارة الأمريكية أن مثل هذه الفوضى، التي يمكن السيطرة عليها، هي المفتاح لتحقيق استراتيجية “أمريكا أولاً”. لكن هناك دولاً أخرى تعتقد أن استراتيجية واشنطن تهز الأساس الدولي الذي تمّ بناؤه خلال فترة ما بعد الحرب الباردة، وسيكون لها عواقب طويلة الأجل.
يبدو أن الإدارة الأمريكية تريد إبقاء الدبلوماسية في حالة من الغليان، حيث قطعت العلاقات التجارية الودية مع شمال أمريكا، ومع أوروبا واليابان والصين، وهدّدت حتى بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية، وهي تهدف إلى إعادة التفاوض على الصفقات التجارية لكسب المزيد من المعاملة التفضيلية للصناعة الأمريكية، لكن ما تسعى إليه الولايات المتحدة يتعارض مع مبادئ العدالة والمعاملة بالمثل في التجارة الدولية.
انسحبت الولايات المتحدة أيضاً من معظم المنظمات والاتفاقيات الدولية التي عارضت موقفها، ورفضت تحمّل المسؤولية الدولية. وفي مجال الأمن، استعرضت قوتها أمام جميع منافسيها تقريباً، وكان الهدف من ذلك التخلص من جميع المخاطر الأمنية الخارجية، حيث زادت الإدارة الأمريكية من الضغط على كوريا الديمقراطية وفنزويلا وإيران، وأصبحت العقوبات الاقتصادية والردع العسكري الدعامة الأساسية للإدارة الأمريكية في حل القضايا الدولية.
والمراقب يلاحظ أن الولايات المتحدة تتبع نهج الأمن والهيمنة المطلقتين، وبهذه الطريقة فقط يمكن لها أن تفكك الإجماع والنظام الدوليين، وتحوّل الوضع إلى منافسة فردية، كما هو الحال بين الشركات.
ومع ذلك، فإن لهذه الاستراتيجية مخاطر ثلاثة: أولاً، إن اتباع نهج يشبه موقف الشركات في المنافسة بين الدول قد يجعل الوضع خارجاً عن السيطرة، ويؤثّر على عملية اتخاذ القرار الفعالة من قبل الدول. يمكن للقوانين والحكومات والمؤسسات التجارية كبح جماح المنافسة التجارية، لكن لا توجد آلية لتقييد المنافسة القومية، ما يجعل من الصعب التعامل معها.
ثانياً، ربما تكون الولايات المتحدة قد بالغت في تقدير قدرتها على لي ذراع البلدان الأخرى بقوة، وهي تعتقد أن الدول الأخرى ملزمة بتقديم تنازلات، وتلبية احتياجات اقتصادها أو سياستها أو أمنها، لكن التاريخ يُظهر أن الدول قد لا تستسلم للضغوط العسكرية أو الاقتصادية. بدلاً من ذلك، قد تتحد وتخوض معارك دفاع عن نفسها، ما يجعل الدولة المضطهدة تدفع أكثر مما تتوقّع.
ثالثاً، قللت الولايات المتحدة من صعوبة إعادة بناء النظام الدولي، وهدف واشنطن النهائي هو إقامة نظام جديد أكثر فائدة لها، لكن النظام الدولي يعتمد على الثقة المتبادلة والإجماع بين الدول.
باختصار.. تريد واشنطن الأمن والمزايا المطلقة، لكن هذا لن يغيّر الاتجاه العام نحو التعددية ونحو لا مركزية القوة.
عناية ناصر