سورية.. ما بعد “قمة العشرين”
في الجوهر لا تريد القوى الكبرى المهيمنة، وعلى رأسها واشنطن، حلاً دائماً للصراعات الدائرة في العالم، بل هي تعمل، في أحسن حال، على تبريد لهيب صراعات محدّدة والتجهّز لتأجيج أخرى، لأن عالماً دون صراع فضلاً عن أنه أمر مناف لجوهر سنن “العمران والاجتماع”، فإنه عالم دون نهب أيضاً، وهذا أمر مخالف لأس قيام الدول المسيطرة واستمرارها، فإن توانت عنه، واتبعت سبل مبادئ الأمم المتحدة والأخلاق الدولية، فإنها تعرف بالتجربة الصادقة أن بقية القوى ستصفق لها، لكنها ستتدافع، بالمناكب وغيرها، لاحتلال الكرسي الشاغر على قمة العالم.
بهذا المعنى، وكي لا يعمينا الدخان المتصاعد من هذه البؤرة المشتعلة أو تلك، فإن الصراع الفعلي اليوم يجري على بنية النظام الدولي القائم، والقادم، بين دولة “فائقة القوة” تريد الحفاظ على ما تراه حقها الكامل والثابت بموارد العالم كله للحفاظ على زعامتها المتفرّدة، وبين قوى كبرى صاعدة تريد لها مكاناً “تحت الشمس”، وبالطبع فإن القانون الدولي، والشرعية الدولية، وحقوق الإنسان ومنظماته الدولية والإقليمية بأغلبها، ووسائل الإعلام “الحر والموضوعي”، ليست إلا أدوات في هذا الصراع المستمر، مثلها مثل الصاروخ الباليستي والقنبلة الذرية.
من هنا يمكن الدخول إلى تبصّر ملامح الطور الجديد للحرب في سورية وعليها بعد “قمة العشرين”، رغم ما يبدو، للبعض من غرابة للربط بين الأمرين، خاصة أن الأخبار الواردة من القمة، قالت: إن سورية كانت قضية جانبية فيها، لكن من يعود بذاكرته إلى الأيام الأولى للحرب حين أُنشئت غرفتي “الموك” والموم” في دول الجوار السوري بقيادة أمريكية، في مواجهة “الثلاثاء السوري”، وهو اليوم الأول الذي يُستخدم فيه فيتو روسي صيني مزدوج لمنع شرعنة التدخل الغربي في سورية، يعرف أن سورية أصبحت، منذ ذلك الوقت، المختبر الدامي لبزوغ عالم تعددي جديد، وهو ما قالت قمة العشرين الأخيرة، ولو بخجل عبر تراجعات ترامبية واضحة، أن أسسه قد أرسيت بنجاح.
لكن، ولأن الخجل في الاعتراف بالحقائق الجديدة، كان السمة المميزة لقمة العشرين، فإن فريق الحرب على سورية سيستمر في المرحلة القادمة، القريبة والمتوسطة، بتنفيذ الركائز الثلاث للخطة الأمريكية التي وضعتها “مجموعة دراسة سورية”، وهي: منع استكمال سيطرة الجيش على كل الأراضي السورية (العدوان “الإسرائيلي” أول أمس من مفرداتها، إضافة إلى وظيفته كرد على إسقاط إيران للطائرة الأمريكية)، الاستمرار في الاستثمار بملف المهجّرين، ومنع عودتهم إلى بلادهم، وعزل سورية، وخنقها عبر العقوبات، وحرمانها من موارها الطبيعية، ومنع إعادة الإعمار، وكان من اللافت دخول منظمة دولية مثل “هيومان رايتس ووتش” إلى هذا الملف..!!، ويلاقي هذه “الخطة” بعض التحرّكات المنفردة لأهداف خاصة لأطراف هذا المحور، مثل “أردوغان” الذي يهرب من مأزقه الداخلي، خسارة اسطنبول المدوية بمعناها السياسي والشخصي، إلى حرب خارجية، كعادة الطغاة، وهو ما يفسّر التصعيد الواسع ضد الجيش في إدلب.
أمام هذا السيناريو، الذي يهدّد بتفريغ نجاحات القوى المواجهة للعربدة الأمريكية من مضمونها ووأد إمكانية البناء عليها، لا بد من وضع حد لاستراتيجية الفوضى المنظمة التي قامت عليها السياسات الغربية تجاه العالم، ومنطقتنا ضمنه، منذ القرن التاسع عشر، في سبيل منع ظهور أي قوة استراتيجية غير خاضعة للسيطرة، وإذا كان موت” الرجل المريض”، أي الامبراطورية العثمانية -ونحن لأسباب تاريخية وموضوعية لا نريد عودته للحياة- هو فاتحة سيطرة الغرب على المنطقة والعالم كله، فإن نهوض الدول الوطنية القوية والمستقرّة في المنطقة، وعلى رأسها سورية، هو شرط النجاح بوضع حدّ لهذه السيطرة، وتلك ليست مسؤولية القوى الدولية البازغة فقط، بل هي أيضاً شرط استمرار بزوغها، لكنها من جهة أخرى مسؤولية شعوب هذه المنطقة أيضاً.. وأولاً..
أحمد حسن